لا أذكر أني قضيت ليلة أطول من تلك الليلة!.. قضيتها مؤرقا مسهدا ،
تتناوشني الأفكار والهواجس ، وتعتصرني مرارة العجز والهزيمة...
وأعلنتْ حواسي استنفارا شاملا ، فلم يغمض لي جفن ، أو يهدأ لي فكر..
وجلدتني نفسي بقسوة ، فألهبتني بسياط اللوم والتأنيب..
وبدت لي كل المثاليات التي أحملها كفقاعات متهافتة من الهواء..
تراها جميلة براقة تسبح برشاقة وانسياب ، لكنها تنفجر عند أول صدمة..
تتلاشى ، وتمحى ، وكأنها لم تكن..
وعاث الشك في أعماقي كمارد أحمق ، يحطم كل الصور الحبيبة إلى نفسي ،
ليبحث تحتها عن الزيف والبشاعة التي قد تخفيها ،
وامتدت يد هذا المارد إلى أقرب الناس إلي ، فأنشب أظافره في وجوههم ليختبرها ،
ويتأكد من أنها وجوه حقيقة أصلية ، وليست أقنعة مزيفة كالقناع الذي يرتديه والد أحلام..
وشعرت أن العالم داخلي يتداعي وينهار ، فيسحق تحته كل الأمثلة الطيبة التي كنت أرنو إليها باحترام ،
بيد أن أحلام وقفت فوق أنقاض هذا العالم المتداعي كالمنارة ، تشع طهرا ونقاء ،
فلم يجرؤ مارد الشك أن يمد يده إليها أو أن يخترق هالة الطهر والوضاءة التي تحف بها ،
وطفق يدور حولها مبهورا بنبلها ووضاءتها ،
يحيره ذلك الجوهر الكريم الذي يتوهج داخلها ، ويسطع بكل هذا الألق الفريد..
والتفت حول رقبتي ضفيرة غليظة من الأسئلة ، وراحت تضغط عليها بعنف ، حتى كادت تخنقني!..
كيف ستواجه أحلام؟.. ماذا ستقول لها؟.. كيف ستعتذر إليها؟...
هل ستعترف لها بحبك وإذعانك للابتزاز؟..
أم ستخفي عنها ما حدث ، وتدعي بأنك لم تذهب لمقابلة أبيها في الموعد المقرر؟..
ستسألك ، لماذا ، فماذا سيكون الجواب؟ وكيف ستبرر لها هذا الادعاء؟...
كيف ستصمد أمام عينيها وأنت تقرأ فيهما نعيك كرجل ، وكإنسان؟..
وانتبهت في هدأة الليل إلى شيء!..
أصخت السمع ، ثم تتبعت مصدر الصوت في قلق ، فقادني الصوت إلى غرفة الجلوس ،
كانت أمي تجلس وحيدة في ركن الغرفة تغلب البكاء.. أضأت النور ،
فأخفت وجهها المخضل خلف كفيها ، قلت لها ، وقد أثر بي منظرها الباكي ،
وزادني ألما على ألم:
ـ أماه.. لماذا تبكين؟..
أجابت بصوت متهدج خنقته العبرات:
ـ وهل تريدني أن أضحك؟.. تأتي إلى البيت واجما حزينا ، ثم تغلق عليك الباب..
أسألك أن تصارحني بما يشغل بالك ، فتأبى.. أدعوك إلى طعام الغداء ، فتعتذر بفظاظة..
آتيك بالطعام إلى غرفتك فتضرب عنه.. تقضي الوقت في الغرفة وأنت تحملق في الجدران كالممسوس..
تريدني أن أرى كل هذا ولا أبكي؟!..
تناولت راحتها بين يدي ، وطبعت على ظاهر كفها قبلة اعتذار.
قلت في تأثر:
ـ أماه.. أنت تبالغين في فهم الأمور.. لا شيء يدعو للقلق.. قومي فاخلدي للنوم.
ـ لن أنام حتى أعرف ما الذي يشغلك؟
ـ قلت لك لا شيء..
ـ أنت تكذب!..
ـ أماه!..
ـ أنت تخفي عني أمرا عظيما لا يسر.
أطرقت في صمت.. تستطيع أن تخفي كل شيء عن الناس ، لكنك لا تستطيع أن تخفي شيئا عن الأم..
سيكتشف العلماء ذات يوم حاسة جديدة تدعى حاسة الأمومة ، وسيجدون عليها ألف برهان..
قلت لها بنبرة مستسلمة:
ـ لا أنكر أني قد تعرضت اليوم لتجربة مؤلمة ، لكني لا أجد ضرورة للحديث عنها..
الحديث فيها يؤلمني أكثر ، وأنت لا تريدين لي المزيد من الألم.
هدأتْ قليلا ، وقالت:
ـ أتخبرني بما يشغلك فيما بعد؟
ـ ستعرفين يوما كل شيء.
ـ مازلت قلقة عليك!.
ـ ألا تثقين بقدرة ابنك على مواجهة الأزمات؟
صمتت ولم تجبْ!.... بدت كأنها ليست واثقة!... عذَّبني صمتها ، إنها تعرف أن ابنها ضعيف!...
أطرقت في حياء ، قالت بعد تفكر:
ـ أما زلت تفكر في أحلام؟
مس هذا السؤال فؤادي المجروح كذرات من الملح ، فالتهبت آلامه من جديد ، قلت وأنا أتهرب من نظرتها:
ـ أحلام كانت فكرة ، والأمر لم ينضج بعد.
ـ أنت تحبها أليس كذلك؟
ـ هذا الموضوع يحتاج إلى وقت آخر..
صمتت ثانية ، وقد أدركت أن صدري مغلق أمام محاولاتها لاكتشاف سري ، ومداواة جرحي..
قالت بعد تأمل حزين:
ـ إذا كنت مصرا على الزواج من أحلام ، فأنا مستعدة لبيع الأرض التي ورثتها عن والدي ،
لتؤمّن لها المستوى المادي الذي يليق بها..
رنوت إليها في ود وفخر..
كم هو الفارق بين إنسان يضحي بكل ما يملك من أجل سعادة ولده ،
وبين إنسان يضحي بسعادة ولده من أجل ما يملك!..
كم هو الفرق هائل وبعيد!!..
تتناوشني الأفكار والهواجس ، وتعتصرني مرارة العجز والهزيمة...
وأعلنتْ حواسي استنفارا شاملا ، فلم يغمض لي جفن ، أو يهدأ لي فكر..
وجلدتني نفسي بقسوة ، فألهبتني بسياط اللوم والتأنيب..
وبدت لي كل المثاليات التي أحملها كفقاعات متهافتة من الهواء..
تراها جميلة براقة تسبح برشاقة وانسياب ، لكنها تنفجر عند أول صدمة..
تتلاشى ، وتمحى ، وكأنها لم تكن..
وعاث الشك في أعماقي كمارد أحمق ، يحطم كل الصور الحبيبة إلى نفسي ،
ليبحث تحتها عن الزيف والبشاعة التي قد تخفيها ،
وامتدت يد هذا المارد إلى أقرب الناس إلي ، فأنشب أظافره في وجوههم ليختبرها ،
ويتأكد من أنها وجوه حقيقة أصلية ، وليست أقنعة مزيفة كالقناع الذي يرتديه والد أحلام..
وشعرت أن العالم داخلي يتداعي وينهار ، فيسحق تحته كل الأمثلة الطيبة التي كنت أرنو إليها باحترام ،
بيد أن أحلام وقفت فوق أنقاض هذا العالم المتداعي كالمنارة ، تشع طهرا ونقاء ،
فلم يجرؤ مارد الشك أن يمد يده إليها أو أن يخترق هالة الطهر والوضاءة التي تحف بها ،
وطفق يدور حولها مبهورا بنبلها ووضاءتها ،
يحيره ذلك الجوهر الكريم الذي يتوهج داخلها ، ويسطع بكل هذا الألق الفريد..
والتفت حول رقبتي ضفيرة غليظة من الأسئلة ، وراحت تضغط عليها بعنف ، حتى كادت تخنقني!..
كيف ستواجه أحلام؟.. ماذا ستقول لها؟.. كيف ستعتذر إليها؟...
هل ستعترف لها بحبك وإذعانك للابتزاز؟..
أم ستخفي عنها ما حدث ، وتدعي بأنك لم تذهب لمقابلة أبيها في الموعد المقرر؟..
ستسألك ، لماذا ، فماذا سيكون الجواب؟ وكيف ستبرر لها هذا الادعاء؟...
كيف ستصمد أمام عينيها وأنت تقرأ فيهما نعيك كرجل ، وكإنسان؟..
وانتبهت في هدأة الليل إلى شيء!..
أصخت السمع ، ثم تتبعت مصدر الصوت في قلق ، فقادني الصوت إلى غرفة الجلوس ،
كانت أمي تجلس وحيدة في ركن الغرفة تغلب البكاء.. أضأت النور ،
فأخفت وجهها المخضل خلف كفيها ، قلت لها ، وقد أثر بي منظرها الباكي ،
وزادني ألما على ألم:
ـ أماه.. لماذا تبكين؟..
أجابت بصوت متهدج خنقته العبرات:
ـ وهل تريدني أن أضحك؟.. تأتي إلى البيت واجما حزينا ، ثم تغلق عليك الباب..
أسألك أن تصارحني بما يشغل بالك ، فتأبى.. أدعوك إلى طعام الغداء ، فتعتذر بفظاظة..
آتيك بالطعام إلى غرفتك فتضرب عنه.. تقضي الوقت في الغرفة وأنت تحملق في الجدران كالممسوس..
تريدني أن أرى كل هذا ولا أبكي؟!..
تناولت راحتها بين يدي ، وطبعت على ظاهر كفها قبلة اعتذار.
قلت في تأثر:
ـ أماه.. أنت تبالغين في فهم الأمور.. لا شيء يدعو للقلق.. قومي فاخلدي للنوم.
ـ لن أنام حتى أعرف ما الذي يشغلك؟
ـ قلت لك لا شيء..
ـ أنت تكذب!..
ـ أماه!..
ـ أنت تخفي عني أمرا عظيما لا يسر.
أطرقت في صمت.. تستطيع أن تخفي كل شيء عن الناس ، لكنك لا تستطيع أن تخفي شيئا عن الأم..
سيكتشف العلماء ذات يوم حاسة جديدة تدعى حاسة الأمومة ، وسيجدون عليها ألف برهان..
قلت لها بنبرة مستسلمة:
ـ لا أنكر أني قد تعرضت اليوم لتجربة مؤلمة ، لكني لا أجد ضرورة للحديث عنها..
الحديث فيها يؤلمني أكثر ، وأنت لا تريدين لي المزيد من الألم.
هدأتْ قليلا ، وقالت:
ـ أتخبرني بما يشغلك فيما بعد؟
ـ ستعرفين يوما كل شيء.
ـ مازلت قلقة عليك!.
ـ ألا تثقين بقدرة ابنك على مواجهة الأزمات؟
صمتت ولم تجبْ!.... بدت كأنها ليست واثقة!... عذَّبني صمتها ، إنها تعرف أن ابنها ضعيف!...
أطرقت في حياء ، قالت بعد تفكر:
ـ أما زلت تفكر في أحلام؟
مس هذا السؤال فؤادي المجروح كذرات من الملح ، فالتهبت آلامه من جديد ، قلت وأنا أتهرب من نظرتها:
ـ أحلام كانت فكرة ، والأمر لم ينضج بعد.
ـ أنت تحبها أليس كذلك؟
ـ هذا الموضوع يحتاج إلى وقت آخر..
صمتت ثانية ، وقد أدركت أن صدري مغلق أمام محاولاتها لاكتشاف سري ، ومداواة جرحي..
قالت بعد تأمل حزين:
ـ إذا كنت مصرا على الزواج من أحلام ، فأنا مستعدة لبيع الأرض التي ورثتها عن والدي ،
لتؤمّن لها المستوى المادي الذي يليق بها..
رنوت إليها في ود وفخر..
كم هو الفارق بين إنسان يضحي بكل ما يملك من أجل سعادة ولده ،
وبين إنسان يضحي بسعادة ولده من أجل ما يملك!..
كم هو الفرق هائل وبعيد!!..
No comments:
Post a Comment