Friday, March 12, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - السابع و العشرون

صلاح؟.




ـ أيزعجكِ حضوري؟..


ـ أبدا.. تفضل..


ـ أهنئك على المعرض.


ـ تعال لأريك لوحاتي..


ـ أنت لوحتي الأحلى والأغلى..


ـ اتفقنا على أن نبقى أصدقاء!..


ـ اكتشفت أن الصداقة بين الرجل والمرأة كذبة..


ـ كذبة!..


ـ كذبة نسلي بها قلوبنا المحرومة..


ـ لم يكن هذا رأيك!..


ـ لم أكن أعرف أني أحبك كل هذا الحب!..


ـ للحب نهاية معروفة..


ـ الزواج؟


ـ وقد رفضته!..


ـ أنا لم أرفضه.. أنا...


ـ أنت ماذا؟..


ـ أحلام أرجوك لا تكوني قاسية..


ـ كنتَ أقسى..


ـ بل هو أبوك.. إنه جلاد بلا رحمة.. ظالم بلا رأفة.. إنسان بلا قلب.. لو تعلمين ما فعله بي أبوك!..


وشعرت بهزة مباغتة ، ارتجت لها السيارة رجة عنيفة ، وأفقت من شرودي على صوت غاضب ينهال علي من الخلف..


ـ ألا تنتبه يا أستاذ؟ لقد أضيئت الإشارة الخضراء.. وأنت سارح شارد غائب عن الدنيا.. إن كنتم لا تستطيعون أن تسيطروا على أفكاركم ، فلا تقودوا السيارات ، وتهددوا بها الشوارع الآمنة...


ركبني ارتباك وخجل ، فترجلت بسرعة ، واعتذرت للرجل ، ثم تفقدت سيارته ، فوجدتها سليمة ، أما سيارتي فقد أصيبت ببعض الأضرار ، قلت للرجل مسلِّما بالنتيجة:


ـ لا يهم.


ـ أضاءت الإشارة الخضراء فانطلقت.. ظننتك ستنطلق أمامي.. لكنك لم تتحرك!..


ـ آسف.. لم أكن قاصدا...


ـ بسيطة..


وانفجرت أبواق السيارات التي تقف خلفنا ثائرة مزمجرة ، تدعونا للانطلاق بسرعة ، وتسوية الأمر في مكان آخر ، بعيدا عن فوهة الشارع الذي اكتظ بقافلة طويلة من السيارات الغاضبة ، كررت اعتذاري للسائق الذي يتلوني ، وانطلقت بسيارتي متوتر الأعصاب معكر المزاج ، بقي على افتتاح المعرض قرابة ساعة.. لقد بكرت كثيرا!.. ولكن.. حقا ، كيف ستواجه أحلام؟.. واندلعت الأسئلة في خاطري ، فقاومتها بشدة ، حتى لا يدهمني الشرود ثانية ، وأرتكب خطأ جديدا ، قد لا يقتصر ضرره علي وحدي هذه المرة ، لكن الأسئلة العنيدة عادت تساورني.. كيف ستستقبلك أحلام؟ أما زالت عاتبة؟ أم أنها نسيت؟ نسيت؟!.. أحلام لا يمكن أن تنسى.. إنها تحبني بصدق وإخلاص.. إذا كانت تحبك فلن تخذلك!.. ستتلقاك بعيون فرحة تشعشع باللهفة والشوق ، وسيشرق وجهها الجميل ، بتلك الابتسامة العذبة الوادعة التي كانت دائما بلسما لروحك..


لكنك جرحتها أو على الأقل لم أقابل مبادراتها بموقف واضح.. الذنب ليس ذنبك.. لقد قمت بكل ما يتوجب عليك..


أبوها هو السبب.. ذلك العاتي الذي حجز بينكما بقسوة.. لكنها لا تعرف الحقيقة.. لا تعرف أني قابلت مبادرتها بإخلاص ، فوقعت في الفخ الذي نصبه لي أبوها بمكر.. أنا الملام في نظرها الآن.


كم تبدو الحقائق مقلوبة في هذا العالم.


لكأن الأضداد قد تبادلت المقاعد في الأذهان ، فأصبح البرئ مدانا ، والمخلص جاحدا ، والأبيض أسود!..


لم يكن جحا غبيا عندما كان يفعل دائما عكس ما يطلب منه. لعله عاش مثلنا في عصر مقلوب ، فأراد أن يقابل عصره بحكمته الجحوية العميقة!..


ووصلت إلى المركز الثقافي بسلام ، فركنت السيارة في مكان قريب ، وجلست أنتظر.. أخذت أعد الثواني واحدة واحدة. أصحبها في رحلتها الأزلية عبر دائرة الزمن..


تك.. تك.. تك..


ما أصعب الانتظار وأقساه!.. لكأنه رجل متوحش بلا قلب يجمع الأعصاب داخل قبضته الحديدية ويسحقها بقسوة وهدوء مثير.. تك.. تك.. تك.. كانت الثواني تتجمع ببطء لتنظم في دقائق ، وكانت الدقائق تتكاسل في مشيتها ، فتثير حنقي وغيظي ، لكانها قد تآمرت على أعصابي العارية ، وقررت أن تشويها بجحيم القلق والضجر واللهفة والضيق!.. حتى الدقائق والثواني باتت ضدي ، تريد أن تحرمني من أحلام!..


وجعلت أتلفت يمنة ويسره ، وأذرع المكان بخطى قلقه ، أردت أن أكون أول من يقول لها مبروك ، أحببت أن أن تعانق ابتسامتي ابتسامتها ، فتمحو بسمات الشوق والرضا ، ما تسرب إلى قلبها نحوي من الشكوك والظنون,


ولكن.. انظروا من هناك!.. هذا وجه أعرفه إنها نورا!!


تلك المرأة الغامضة التي هربت مني ، وحملت معها سر الطفلة اللقيطة التي شعلتني لغزها زمنا وما زال..


ماذا تفعل نورا في هذا المكان؟..


ومضيت نحوها مدفونا برغبة جامحة للاستطلاع.. يجب أن أحطم قشرة الغموض التي تغلف تصرفات هذه المرأة اللغز!... وألفتني أمامها ، فندت عنها شهقة ذعر.. همست كمن بوغت بشبح:


ـ أنت؟


ـ هل فاجأتك؟


دمعت عيناها ، وقالت بنبرة متهدجة تشي بالضيق.


ـ أنت تلاحقني في كل مكان!


ـ أنا أبحث عن الحقيقة..


ـ أية حقيقة؟


ـ حقيقة الطفلة..


ـ اضطربت وقالت في تلعثم:


ـ لا أفهم عم تتحدث!..


تنفست بعمق ، وقلت بلهجة رفيقة:


ـ آنسة نورا.. عندي إحساس عميق بأنك مظلومة.. تصرفاتك تشي بأنك إنسانة مغلوبة على أمرها ، أو على الأقل امرأة ندمت على خطاياها ، وتريد أن تتوب..


هتفت في وجهي بنبرة احتجاج هدجها الانفعال:


ـ أنا لست خاطئة.


ـ أدركت أن كلامي قد جرحها ، وخدش مشاعرها ، قلت مواسيا:


ـ آنسة نورا ، أنا لا أريد أن أحاسبك أو أتهمك ، كل ما يعنيني هو بارعة ،يجب أن نجنب هذه الطفلة ما ينتظرها من شقاء..


انثالت دموع الآنسة نورا بصمت ، وأطرقت لتخفي دموعها عن عيون العابرين ، فحاولت التخفيف عنها علها تهدأ ، فلا تلفت إلينا الأنظار:


ـ آنسة نورا اعتبريني صديقا ، كفكفي دموعك ودعينا نتحدث بهدوء ، هل يمكن لنا أن نتحدث؟


هزت رأسها بالموافقة ، ومضت معي إلى مقصف المركز ، اخترت مكانا هادئا يطل على قاعة المعارض حيث سيفتتح معرض أحلام ، وانتظرت نورا ريثما هدأت وكان النادل قد جاءنا بعصير الليمون ، فرشفت عصيرها في صمت ، وهي تبحر بأفكارها في المجهول ، وعادت من رحلة الشرود فجأة لتقول:


ـ يبدو أنك شاب طيب القلب!.. اهتمامك ببارعة جعلني أؤمن بك بعد أن كفرت بالرجال.. تبدو لي رجلا أمينا.. رجلا من العالم الغابر.. عالم المعتصم الذي كان يهتز ويثور من أجل إنقاذ امرأة مهددة ، لا عالم الوحوش الذي يستضعف المرأة ، ويفترسها بصمت..


أدهشني حديثها ، علقت في إعجاب:


ـ كلماتك فصيحة ورقيقة!..


ـ هو الألم يا سيدي يصهر كلماتنا ويصقلها ، ثم يرسلها بهذه الرقة والبيان..


ـ لكن حديثك يعكس ثقافة واسعة ، هل أنت جامعية؟


ـ كنت..


ـ وراءك قصة كبيرة!..


ـ لكل منا قصة..


ـ قصتك حيرتني.. ليست قصة عادية فيما أظن!..


ندت عنها آهة عميقة ، وقالت:


ـ نعم.. لم تكن قصتي كسائر القصص..


ـ أريد أن أعرفها..


ـ أخشى أن لا تصدقها..


ـ سأصدقها.. كوني واثقة..


أطرقت في حزن ، وراحت في غيبوبة من الصمت ، وكأنها تغوص إلى أعماقها السحيقة ، لترتب ذكرياتها الأليمة ، ثم ما لبثت أن قالت بصوت دامع:


ـ اسمع يا سيدي قصتي من أولها ، صدقها أو لا تصدقها ، انشرها أو اكتمها.. تصرف بها كما تشاء.. فلم يعد في هذه الحياة شيء يهم..


كانت يائسة حتى أعماق اليأس ، وكانت كئيبة كئيبة حتى الثمالة ، وكانت شاحبة كالخريف.. أردفت وهي تغالب الدموع:


ـ قصتي يا سيدي قصة حزينة.. قصة الضعيف عندما يتوه في عالم الأقوياء.. قصة البريء الذي يظن أن كل الناس من حوله أبرياء.. قصة جذورها في القرية ، وفروعها في هذه المدينة الواسعة التي تعج بالمتناقضات..


هناك.. في قريتي الحبيبة ـ ولن تحتاج لمعرفة اسمها ـ هناك ولدت وترعرعت.. تشبعت بهواء الريف النقي وعشقت خضرته الفاتنة ، وأدمنت على مائه الزلال ، فتحت عيني على الدنيا ، لأجد أمي الأرملة بقربي ، تحضنني وترعاني ، وسألت عن أبي فأخبروني بأنه قد سافر ، كبرت ، وكبر في فمي السؤال ، وعرفت الحقيقة.. لقد مات أبي وأنا ما زلت جنينا في بطن أمي.. أصابته رصاصة طائشة ، وهو يشارك في أحد أعراس القرية ، فأردته قتيلا ، وكنت أنا وأمي ضحايا هذه الرصاصة الغبية..


وكانت أمي وفية لزوجها ، أو لنقل مصدومة.. فلم تصدق أن حلمها في الزواج والحياة الهادئة الرغيدة قد هوى مع زوجها القتيل.. عزفت عن الزواج ، ووأدت جمالها في أعماق الحزن ، فرفضت كل من خطبوها ، وهم كثر ـ وانكبت على رعايتي وتربيتي ، ومنحتني حنانا سابغا عوضني بعض حنان الأب الفقيد الذي غادر الدنيا قبل أن أصل إليها..


وكانت أمي تهوى الخياطة وتتقنها ، فوجدت في هوايتها تسلية مفيدة ، ودواء للفراغ الذي تعانيه ، ومصدر دخل يكفينا حاجة الناس من الأقارب والأباعد.. وملأت شهرة أمي القرية ، درت عليها الخياطة دخلا معقولا ، فعشنا سنوات جميلة ، لا يعكر صفوها سوى ذكرى الأب الفقيد..


ودارت الأيام ، فكبرت ونضجت ، انبثقت في أعماقي أحلام المراهقة وأشواقها ، فرحت أرسم في خيالي لوحة المستقبل الباسم الذي كنت أحلم فيه..


وذات يوم ، جلست أمي بقربي وقالت:


ـ لا يمكن للمرأة أن تحيا دون رجل ، هذه سنة الحياة..


فاجأتني بكلماتها ، فأوحت لي أوهام المراهقة بأن نضجي وجمالي قد لفت إلي الأنظار ، وأن أحدهم قد تقدم لخطبتي ، ابتسمت في حياء ، وتشاغلت بكتاب كنت أقرؤه ، وأنا أتلهف لسماع بقية الحديث ، تابعت أمي وهي تسرح بخيالها فيما لا أدري:


ـ بعد أن مات أبوك ـ رحمه الله ـ قررت ألا أتزوج ثانية ، خشية عليك من قسوة زوج الأم وشح حنانه على فتاة لم ينجبها ، لكنك اليوم صرت صبية جميلة ، يتمنى ودها كل شباب القرية ، ولم تعودي بحاجة إلى أحد..


دغدغت كلمات أمي مشاعري ، فانتشيت بها ، وحدثتني نفسي بأني على أعتاب فرحة وشيكة ، فابتسمت رغما عني. ورفعت الكتاب إلى وجهي ، لأخفي ابتسامتي الفرحة ، بانتظار المفاجأة التي تمهد لها أمي بمقدمتها ، سألتني أمي وهي تترقب ردة فعلي باهتمام:


ـ هل تعرفين جارنا أبا سلامة بائع الألبان؟..


كان وقع الاسم على مفاجئا ومثيرا ، فدق قلبي بعنف ، وقلت وأنا أنتفض من الذعر:


ـ لكنه كبير السن يا أماه!!..


رمشت أمي ، وقالت في دلال:


ـ لكنه ليس كبيرا على أمك..


دارت أفكاري وانتقلت من أقصى الحلم إلى أقصى المفاجأة..


فهمت ما أرادته أمي من كل هذه المقدمات..


وأعلنت رفضي لهذا الزواج متذرعة بما سمعته عن قسوة الرجل وشحه المعروف ، وحذرتها من الصدام الذي ينتظرها مع زوجته الفظة ، وأولادها اليافعين الذين سيتعاطفون مع والدتهم ، لكن ذرائعي تهاوت أمام إصرارها الملطف بالمبررات..


أدركت أن الأمر قد نضج على نار هادئة ، وأن صبر أمي على حياتها الباردة ، المقفرة من دفء الشريك قد نفد ، فاستجابت لنداء الأنثى المكبوته داخلها ، فدبرت ، وقررت ، ثم جاءت تفصح عن قرارها ، لا لتستشيرني فيه ، بل لتلزمني به ، وكانت تعرف أني لا أرفض لها طلبا ، فرضخت لرغبتها وتهيأت لحياتي الجديدة معها في ظل زوج الأم...


وانتقلت مع أمي إلى بيت زوجها الواسع ، فظننت أن جدران البيت الجديدة ستشع بالسعادة احتفالا بقدومنا ، وقدرت أن أبا سلامة مهما كان شحيحا ، فلن يكون شحيحا على زوجته الثانية التي استمات في الوصول إليها ـ كما علمت فيما بعد ـ مبهورا بجمالها الذي كانت ما تزال تحتفظ به حتى ذلك الوقت..


لكن تقديري ـ للأسف ـ كان مسرفا في التفاؤل ، وسرعان ما بدأ حسن ظني به يتعكر.. فلم يمض على زواج أمي يومان حتى اندلعت الخلافات بين أمي وضرتها ، ونشب بينهما صراع مرير.. ثم بدأت معاناة أمي مع زوجها الذي تبين أنه لم يتزوجها لجمالها فحسب ، بل لأنها كانت خياطة ماهرة يمكن أن تدر عليه المال الوفير ، وما أن انتهى الأسبوع الأول من زواجهما ، حتى بدأ أبو سلامة يطالب أمي بأن تلتفت إلى مهنتها وزبائنها ، وصار يحاسبها على ما يأتيها من دخل ، وكأنها خياطة أجيرة تعمل لحسابه ، وعندما كان يكتشف أن أمي قد ادخرت بعض النقود ، وأخفتها عنه ، كان يقيم الدنيا ولا يقعدها ، ويتذمر من مصاريف البيت العالية التي زادت بسبب قدومنا ـ أنا وأمي ـ إلى البيت..


وعرضت والدتي بيتنا القديم للإيجار ، فاستولى أبو سلامة على أجرته الشهرية ، وقد ظن أن زواجه من أمي يعني أنها صارت ملكا خاصا له ، وكأنها إحدى بقراته الحلوب التي كان يربيها من أجل أن تمده بالحليب اللازم لصناعة الألبان ، وصبرت أمي على حياتها الجديدة ، فتمسكت بها برغم كل ما فيها من ضنك وشقاء ، وآثرتها على حياة الوحدة الموحشة التي كانت تحياها أرملة بلا زوج..


كنت آنذاك في الصف الثالث الثانوي العلمي ، وكنت مجتهدة في دروسي ، تملأ رأسي طموحات كبيرة بدخول الجامعة والتخرج منها طبيبة أو مهندسة أو صيدلانية ، لكن جحيم المشاكل الذي كان يتفجر من حولي بالهموم والمنغضات ، أثر على دراستي تأثيرا سيئا ، وأورثني شقاء أمي همّاً وحزنا مقيما لا يفارقني.. وليت الأمر وقف عند هذا الحد!.. فلم تلبث قسوة زوج أمي أن طالتني على يد ابنه سلامة ، فقد كان سلامة شابا جاهلا أحمق ، جعلت منه قسوة أبيه إنسانا مشوها قاسيا لا يرحم ، كان عدائيا إلى درجة مخيفة ، وكان فظا بذيئا لا يتوانى عن استعمال الألفاظ الفاحشة مع أقرب الناس إليه..


ومنذ الأيام الأولى لوجودي في بيت زوج أمي نصَّب سلامة نفسه وصيا علي ، فراح يراقب حركاتي وسكناتي ، ويلاحقني في ذهابي إلى المدرسة وإيابي منها ، ويحاسبني على تصرفاتي ، مدعيا بأنه يغار علي ، ثم قام بتحريض والده على منعي من إتمام دراستي ، بحجة أني فتاة جميلة ، ألفت انتباه الشبان في القرية ، وقد أجلب لهم العار إذا ما أقدمت على فعل طائش..


وذات يوم نشب بيني وبين سلامة شجار عنيف ، فوجه لي كلاما قاسيا بذيئا ، واتهمني اتهامات ظالمة جرحتني وآلمتني ، فثرت لكرامتي وانهلت عليه بالشتائم ، وانفرجت بالبكاء..


وانتظرت أن يقف زوج أمي إلى جانبي أو يقف على الحياد ، لكنه انحاز إلى جانب ابنه ، وأعلن ارتيابه في سلوكي لمجرد أني منتظمة في المدرسة ، وهنا انبرت أمي للدفاع عني وعن تربيتي العفيفة ، فما كان من زوج أمي إلا أن هوى بيده على وجه أمي المسكينة وصفعها صفعة قوية ، وهددها بالطلاق إن هي حاولت التدخل ثانية ، فهو ـ كما ادعى ـ يربيني ويحافظ علي بهذه الطريقة..


وأمعن زوج أمي في الظلم والتعسف والطغيان ، فقرر أن يمنعني من إكمال تعليمي ، وكان قراره حازما صارما لا عودة فيه..


ونظرت إلى أمي بعيون غائمة بالدموع ، فغضت طرفها الحزين ولم تأت بكلمة ، وقد بدا القهر والخضوع في وجهها المشوه ببصمات أصابع زوجها الآثمة ، وعينيها الكسيرتين..


وتركت المدرسة مرغمة ، لكني لم أترك الدراسة ، فالعلم كان يجري في عروقي مجرى الدماء ، وقررت أن أستعيض عن الفرع العلمي بالفرع الأدبي الذي يسمح لي بالدراسة الحرة دون الاضطرار للدوام في المدرسة ، وصارحت أمي بنيتي ، فتنهدت في حيرة ، ولم تبْدِ رأيا!..


وكانت لي خالة متزوجة في المدينة ، فراسلتها بالسر ، وشكوت لها الجحيم الذي أحياه أنا وأمي ، ورجوتها أن تتوسط لدى زوج أمي ليسمح لي بتأدية امتحان الشهادة الثانوية الأدبية ، فخفت خالتي لنجدتي محملة بالهدايا ، واستطاعت بدهائها وكياستها أن تنتزع الموافقة منه..


وأديت الامتحان بفرح ، واجتزته بنجاح ، وحزت على معدل مرتفع يسمح لي بدخول الجامعة ، لكن زوج أمي رفض فكرة التحاقي بالجامعة ، وكان صارما هذه المرة إلى حد لا ينفع معه التوسل ، ولا تجدي فيه الوساطة!..


وعشت قلقا نفسيا فظيعا ، وأنا أرى موعد انتهاء تقديم الطلبات للجامعة تقترب ، وقطار التحصيل العالي يكاد يفوت ، ولم ألبث أن حزمت أمري ، وقررت الهرب إلى المدينة ، للالتحاق بالجامعة ، وليكن بعد ذلك ما يكون!..


بكت أمي عندما أخبرتها بقراري ، وحاولت إثنائي ، ولكنها استجابت لرغبتي في النهاية ، وهي ترى إلحاحي ودموعي ، وأعطتني مبلغا من المال كانت قد ادخرته بالسر ، وأوصتني باللجوء إلى خالتي لترعى شؤوني ، وودعتني بالقبلات والدموع...


وصمتت نورا فجأة ، وقد تعلقت نظراتها بشيء!.. التفت إلى حيث كانت تنظر ، فرأيت أحلام وهي تتقدم لافتتاح معرضها بصحبة أبيها وأمها التي كنت أراها لأول مرة..


وخفق قلبي لرؤية أحلام ، وهي ترفل في هدوئها الجليل ، وقد ازدانت شفتاها بابتسامة رقيقة ، لم تكن كافية لستر القلق والحزن الذي كان يطل من عينيها الخضراوين الغارقتين في كآبة مفرطة ، وبدت ذاهلة بفكرها عما حولها ، تقابل الناس بابتسامتها الرزينة ، وكأنها تريد أن تبكي ، لتريق ينابيع الحزن والأسى التي تتفجر داخلها ، وأحسست بأني أتحمل جزءا من المسؤولية عن هذا الحزن والعذاب الذي تحمله داخلها في لحظة من أروع لحظات حياتها ، فركبني شعور مؤلم بالذنب..


وتأملت أباها القاسي الذي يمضي إلى جانبها ، وهو في غاية التأنق واللطف ، فشعرت بالغيظ يأكلني ، ورمقت ابتسامته الكاذبة التي يقابل الناس بها باحتقار..


وأذكر أني سمعت نورا تهمهم بكلام غامض أحسست فيه احتجاجا على شيء ، التفت إليها ، فوجدتها ترقب موكب أحلام بنظرات غامضة لا تريح!..


سألتها مستطلعا:


ـ هل كنت تقولين شيئا؟


غمغمت بلهجة بان فيها الارتباك:


ـ لا.. لا.. لم أقل شيئا..


ـ كأني سمعتك تتحدثين!..


ـ المهم.. إلى أين وصلنا؟


ـ إلى أن هربت إلى المدينة..


ـ نعم.. هربت إلى المدينة ، ولُذْت بها من ظلم القرية ، فوجدت أن ظلم القرية أخف وأرحم..


علقت مشفقا ، وأنا أرقب طلائع الدمع وهي تغزو عينيها:


ـ يبدو أنك عانيت في هذه المدينة كثيرا!..


نشجت ، وقالت بنبرات تختلج:


ـ هذه المدينة لا ترحم ، تبتلع الطيبين ، وتركع للأقوياء ، ويل للضعيف إذا تاه في مجاهلها..


وداهمتها دفقة جديدة من الانفعال ، فصمتت ريثما استوعبتها ، ثم تابعت تقول:


ـ بدأت معاناتي في هذه المدينة ، منذ أن وضعت قدمي فيها أول مرة..


بدأت مع سائق تكسي كان أول من قابلته في هذه المدينة ، فطلبت منه أن يقلني إلى بيت خالتي حسب العنوان الذي وصفته له ، انطلق بي إلى حيث أردت ، وفي الطريق ، لاحظ السائق أني أرمق المدينة بنظرات حالمة ، وأرنو إلى معالمها الحديثة بإعجاب ، فأدرك أني فتاة غريبة أزور المدينة للمرة الأولى.. ولمح في وجهي جمالا أسال لعابه ، فأغرته غربتي وجمالي بالاقتحام.. بدأ يقتحمني بنظراته الوقحة ، فقطبت غاضبة ، وتجنبته ، لم ييأس ، أدار مسجل السيارة ، فأرسل أغنيات فاحشة من النوع الرخيص ، وعاد يقتحمني بنظراته من خلال المرآة ويعريني بعينيه ، ظن أني فتاة ساذجة سهلة المنال ، فاستضعفني واندفع وراء أحلامه المريضة ، لم أسكت ، وبَّخته وطلبت منه أن يخرس الشريط ، ففعل مغتاظا ، وقال:


"من حقي أن أضع الشريط الذي أريد" قلت له بلهجة حادة : "تفعل ذلك عندما تكون وحدك ، أما عندما يشاركك السيارة راكب ، فمن واجبك أن تحترم مشاعره" ضحك وقال: "أنت قوية الشخصية على ما يبدو ، من يرى جمالك وأنوثتك يظن بك رقة ولطفا يغريه بالتقرب إليك"..


لم أحتمل سماجته ووقاحته المفرطة ، قلت له: "توقف" فماطل ، هددته إن لم يتوقف بأني سأمد رأسي من النافذة ، وأصرخ في العابرين طالبة النجدة..


هنا توقف وهو يرمقني بعيني وحش أفلتت منه الفريسة ، نقدته أجرته ، وغادرت السيارة , وأنا ألعنه..


ووقفت على الرصيف بانتظار سيارة أخرى ، فما لبثت أن تهادت قربي سيارة حديثة يقودها شاب ، فظننتها لأول وهلة سيارة أجرة ، لم أكن أعرف أن لسيارات التكسي لونا خاصا يميزها ، ولوحة ضوئية تعلوها!..


اقتربت من السيارة ، وكدت أصعد إليها ، لكن السائق الشاب مال نحوي ، وقال وهو يحرك حاجبيه في حركة راقصة :"منذ متى وأنا أبحث عن فتاة بهذا الجمال!."


أدركت أني أمام قناص آخر يبحث عن فريسة ، فأحجمت وتراجعت..


وداخلني خوف ، شعرت بأن المدينة مليئة بأسماك القرش!... ووقفت في مكاني متوجسة حائرة ، ورحت أتفرس في وجوه السائقين الذين يمرون بي ، أبحث عن وجه لا يثير المخاوف..


واستوقفت كهلا توسمت فيه النبل والطيبة ، فحملني إلى العنوان المطلوب بسلام ، ولم يضايقني بشيء ، فهدأ روعي ، واستبشرت خيرا ، وفكرت أن ما واجهته من متاعب لم يكن سوى صدفة مزعجة وسوء طالع..


واستقبلتني خالتي بالأحضان ، وقد ظنت أني جئتها زائرة لأقضي عندها بضعة أيام ، لكنها عندما علمت بقصة هروبي ، وجمت ، وتعكرت ملامحها ، ولم تبد حماسا للفكرة!..


واخترت دراسة اللغة الإنكليزية ، فسجلت نفسي في الجامعة ، وبدأت الدوام فيها ، وأنا فرِحة بتحقيق حلمي في التحصيل العالي.. لكن فرحتي كانت مشوبة بالقلق على أمي المسكينة التي تتمزق بين ابنتها الوحيدة ، وزوجها القاسي ، وحمل إلينا أحد القادمين من القرية خبرا مفاده أن زوج أمي قد غضب من تصرفي غضبا شديدا ، وقرر أن يطردني إن أنا عدت إلى بيته ، وهدد أمي بالطلاق إن هي مدتني بقرش واحد..


ثم ما لبث زوج خالتي أن ضاق ذرعا بوجودي في بيته ، فبدأت ألمس فظاظة وجفافا في معاملته لي ، وأفقت ذات ليلة على شجار عنيف بينه وبين خالتي ، وسمعته يتذمر من قلة ذات اليد ، وضيق المكان ، ويعتبرني سببا في الضائقة المالية التي يمر به ، أحسست بأني ضيفة ثقيلة ، وبدأت أتهيأ للرحيل ، ولكن.. إلى أين أمضي؟..


إلى قرية جاهلة أوصدت في وجهي الأبواب؟..


أم إلى مدينة ظالمة لا أعرف فيها أحدا سولا خالة مغلوبة على أمرها ، وزوج خالة لا يطيق احتمال عبء جديد؟


وصارحتُ خالتي بعد أيام بأني قدمت طلبا للحصول على غرفة في بيت الطالبات ، ورجوتها أن تحتمل وجودي معها ريثما أحصل على السكن الجامعي ، فأنشأت تبكي وتعتذر ، وتشرح لي ظروف زوجها المادية الصعبة ، فأبديت تفهمي لوضعها ووضع زوجها ، ورحت أنتظر حصولي على السكن الجامعي بفارغ الصبر..


وحصلت أخيرا على نصف غرفة في سكن الطالبات ، وكانت شريكتي في السكن فتاة مرحة طيبة القلب ، خففت عني بعض آلام الغربة ، وهمومها ، وأقبلت على الدراسة بحماس وتصميم ، وحظيت بإعجاب أساتذتي منذ الشهور الأولى ، فتنبؤوا لي بمستقبل عظيم..


بيد أن الآمال الكبيرة التي نمت وازدهرت داخلي ، أخذت تتضاءل يوما بعد يوم ، وأنا أرى المبلغ الذي أصرف منه يتناقص بسرعة ، فلم أكن أتوقع أن حياة الجامعة ومتطلباتها ستأتي على كل ما معي في وقت قصير!..


وطاردني القلق بلا هوادة ، فجثم الهم على صدري ، واسودت الدنيا في عيني.. ولاحظت شريكتي في الغرفة ما آلت إليه أحوالي ، فاستطاعت بأسلوبها اللطيف أن تعرف سبب تعاستي ، فرثت لحالي ونصحتني بالعمل ، ولكن ماذا أعمل؟ ومتى سأعمل؟.. وكيف سأوفق بين الدراسة والعمل؟ ولم يكن أمامي خيار.. المال أولا ، ثم الدراسة..


عملت سكرتيرة في إحدى الشركات الصغيرة بأجر زهيد ، وكان صاحب الشركة طيبا ، فتساهل معي في أوقات الدوام ، مقدرا وضعي كطالبة في الجامعة ، واستطعت الجمع بين العمل والدراسة بمزيد من الدأب والصبر ، واجتزت امتحانات السنة الأولى بنجاح ، وعادت الآمال الباسمة تداعبني..


كانت عطلة الصيف فرصة ثمينة لي حتى أجمع مصروف السنة التالية ، وكان لابد من البحث عن عمل جديد يدر علي دخلا أفضل ، فتابعت إعلانات الجرائد ترقبا لفرصة مناسبة ، واستجبت لأول إعلان صادفته..


"شركة أدوية بحاجة إلى سكرتيرة ذات خبرة براتب جيد ، العنوان : كذا"


مضيت إلى الشركة ، فوجدت طابورا من المتقدمات وعرفت منهن أن أكثرهن من خريجات معهد السكرتارية ، ويحملن شهادات خبرة طويلة في هذا المجال تصل إلى عدة سنوات ، سخرت من حظي ، ويئست من الفوز ، لكني تقدمت مع المتقدمات خجلا من الانسحاب ، وكانت المفاجأة أني فزت بالفرصة ، وخسرنها جميعا ، لماذا نستغرب؟!.. نعم.. فزت لأني أملك مؤهلا مهما لا تتمتع به الأخريات.. مؤهل الجمال.. كنت أجملهن على الإطلاق ، قال لي صاحب الشركة الشاب يومها: "أنا بحاجة إلى سكرتيرة جميلة ، فشركتي ناشئة ، وهي بحاجة إلى وجه لطيف يشد الزبائن والزوار".. هكذا بكل بساطة!.. كان الرجل يبحث عن دمية جميلة تزين مكتبه ، وتصطاد بفتنتها عملاءه.. واعتذرت.. اعتذرت لأني شعرت بالإهانة.. رفضت أن أكون مجرد ديكور في مكتبه الأنيق.. مجرد قطعة لحم لذيذة تجذب الفرائس للصياد.. لا أدري كيف واتتني الشجاعة على الاعتذار رغم أني كنت بحاجة إلى فرصة كهذه!!!..


وحانت فرصة ثانية ، فعملت قرابة شهر في شركة مقاولات ، لكن زوجة المدير خافت على زوجها من فتنتي ، فأمرته بطردي ، ففعل.. هكذا دائما.. جمالي لعنة لا تفارقني.. يسبب لي المشاكل أنّى ذهبت!.. الويل للجميلة في هذا المجتمع إن أرادت أن تحيا حياتها الكاملة بشرف وسلام!..


وحانت فرصة ثالثة في شركة لمستحضرات التجميل ، وكان الراتب مغريا ، فعملت فيها بدأب وإخلاص ، ونلت رضا مديري ، فتمسك بي إلى ما بعد العطلة الصيفية ، ورتب لي برنامجا للتوفيق بين عملي عنده ودارستي في الجامعة ، استبشرت خيرا ، وتوهمت أني قد وصلت إلى شاطئ الأمان ، ولكن.. التاجر كالسياسي.. لا يكشف أوراقه مرة واحدة.. إنه يماطل ويداهن ويناور ، ثم ينقض عليك بالضربة القاضية..


وهكذا فعل مدير الشركة معي.. عاملني في البداية باحترام ، ثم حل لي مشكلة التوفيق بين الدراسة والعمل ، ثم انهال علي بالمكافآت ، ثم!.. ثم آن وقت سداد الدين... فكل شيء له ثمن!..


ناداني المدير ذات يوم ، وفاجأني بطلب غريب ، قال لي وهو في غاية الثقة:"لقد دعوت اليوم بعض الخبراء الأجانب إلى حفلة عشاء ، وأريدك أن تكوني معي"..


توجست ، وسألته في حيرة:"ما حاجتك لي في حفلة عشاء؟!".


نظر إلي وقد أغضبه سؤالي ، ثم قال:"إنه عشاء عمل".


قلت له متعللة:"لقد بدأ العام الدراسي منذ أشهر واقترب موعد الامتحانات ، وأنا بحاجة لكل ثانية لتعويض ما يفوتني من الوقت بسبب العمل ، أرجو أن تعذرني".


ضحك وقال:"دراستك يا عزيزتي لن تنفعك!... إذا تعاونت معي الليلة ، فستنالين أجرا عظيما لا يطاله أساتذتك في الجامعة".


اعتذرت ثانية ، فاعتبر اعتذاري تمردا ، اتهمني بعدم الحرص على مصلحة الشركة ، وخاطبني بلهجة فظة أزعجتني ، وكأنه ولي أمري ، المالك لقيادي ، ولم أرضخ لرغبته ، فكررت رفضي لطلبه ، قلت غاضبة: "اعتبرني مستقيلة ، فلا حاجة لك بموظفة فاشلة".


هنا غيَّر من لهجته الجافة ، ولجأ إلى اللين.. ابتسم ابتسامة ناعمة وقال مداعبا:


"يا مجنونة.. أنا أريد مصلحتك.. لقد هيأت لك فرصة ثمينة لا تتكرر!".


ثم أردف كمن يلوح بورقة رابحة:


"أنا أعرف أن ظروفك المادية ليست على ما يرام!"


ارتبكت وقلت:"مستورة والحمد لله.. لا أطمح للكثير".


هز رأسه يائسا ، وقال:


"ماذا أفعل بك؟!.. مازلت صغيرة!.. فهمك بطيء ، وطموحك ضامر.. رأسك الجميل لم يستوعب حقائق الحياة بعد!"


أثارت كلماته حيرتي.. لم أفهم أي معنى يقف وراء هذه المحاورة الغامضة العنيدة لجرّي إلى سهرة أرفضها.. تنهد المدير وقال في محاولة أخيرة لإقناعي:


"هل تذكرين رجل الأعمال الإيطالي الذي زارني هذا الصباح! تذكرينه بلا شك ، بصراحة هو معجب بك ، وقال لي بالحرف الواحد : أنت تملك في مكتبك ملكة جمال، أنثى كالشهد ، مارلين مونرو عربية ، أهنئك على هذا الاختيار"..


نظرت إلى المدير غاضبة ، وكدت أحتج على جرأته ، لكنه سارع إلى إتمام حديثه قبل أن أرد عليه وقاحته ، قال متصنعا البراءة:


"هكذا قال ، ولا دخل لي فيما قاله ، على فكرة.. هو إيطالي ، لكنه ينحدر من أصل عربي.. أجداده من عرب صقلية هل سمعت بصقلية.؟ كانت جزيرة عربية أيام كان للعرب صولة وجولة ، المهم.. السيد جيوفاني هو صاحب الدعوة.. رجاني أن أدعوك معي إلى العشاء ، وقد حجز لنا طاولة في فندق من أرقى فنادق المدينة".


نظرت إليه في غيظ ، وقلت حانقة:"أنا أرفض دعوته وأسلوبه ، وأرفض طريقتك في الكلام معي ، إن للعمل حدودا يا سيدي ، فأرجو ألا نتخطاها".


ابتسم المدير ابتسامة ماكرة ، ثم تناول سيكارا ، وقال وهو يتشاغل بإشعاله:


"أنت ترفضين بهذا مكافأة مقدارها ألف دولار".


تساءلت مرتابة:"ألف دولار؟ مقابل ماذا؟!.."


أجاب المدير وهو يقترب مني ويتفحصني بعينين وقحتين:"من أجل ليلة واحدة".


أذهلتني وقاحته وأثارتني ، فاستحلت كتلة من الغضب ، وفقدت سيطرتي على نفسي فلم أشعر إلا وكفي تهوي على وجهه القبيح ، فرنت الصفعة في المكتب كأزيز الرصاص ، ليت الصفعة كانت رصاصة حقيقية ، لأراحت العالم من رجل وغد تحول فجأة من رجل أعمال إلى قوّاد وضيع يبيع إحدى موظفاته إلى طلاب الهوى والمتعة ، يحاول اصطيادها بمخالب غيره ، حتى إذا ما سقطت أول مرة أصبح طريق الانحدار أمامها مفتوحا حتى نهاية الدرك ، وأصبحت فرصة استغلالها والاتجار بها سانحة له ولأمثاله من تجار الرقيق الأبيض ومروجي الدعارة..


ومضيت لا أكاد أتبين طريقي ، والدموع تنهمر من عيني كالمطر في تلك اللحظة التهبت كل جروحي.. تذكرت يُتْمَ الطفولة ، ومعاناة الشباب.. تذكرت زوج أمي القاسي وابنه الجاهل.. تذكرت أمي المقهورة ، وخالتي المغلوبة على أمرها.. وارتسمت أيامي المرة التي قضيتها بالمدينة على شريط من الخيال ، فألبت صوره مواجعي ، وأججت أحزاني..


وغادرت الشركة غير آسفة.. زاهدة بأجرة ثلاثة أسابيع من العمل والدأب.. وترسبت في أعماقي قناعة راسخة بأن عمل المرأة في مجتمع لا يحترم المرأة ، ولا يراعي مشاعرها عبث وانتحار..


وعادت الآنسة نورا إلى دموعها ، وقد فاض بها التأثر ، فخففت عنها ورجوتها أن تهدأ ، ثم تابعت الإصغاء إلى قصتها باهتمام ، قالت بعد فترة من الصمت المفعم بالانفعال:


ـ قررت ألا أعمل سكرتيرة مرة أخرى ، بل عزفت عن العمل ، وعكفت على دراستي فنذرت لها جل وقتي ، وصممت أن أفوز بالمرتبة الأولى على الكلية ، طمعا بالمكافأة المالية العالية التي تمنحها الكلية للثلاثة الأوائل كل عام ، واقتصدت في مصروفي إلى حد التقتير ، حتى لا تلجئني الحاجة على العمل ، لكني أخفقت في مسعاي ، ولم أنل سوى المرتبة السابعة..


وكان لابد أن أعيد النظر في قراري بالعزوف عن العمل.. فرحت أبحث عن عمل لا يضطرني للاحتكاك الزائد بالرجال..


ووجدت ضالتي أخيرا في شركة كبيرة بحاجة إلى طابعة آلة كاتبة باللغة الإنجليزية ، فتحمست لهذه الفرصة ، وتقدمت لها ، ففزت بالوظيفة ، ويا ليتني ما فزت.. جرت الأمور في البداية على ما يرام ، فمهمتي كانت واضحة ومحددة ، وغرفتي مستقلة ، والعمل لا يشكل عبئا مرهقا ، فما كان علي سوى طباعة الرسائل غير المستعجلة الموجهة للشركات الأجنبية في الخارج ، أما الرسائل المستعجلة فكانت ترسل عن طريق التلكس..


ولعبت الصدفة دورها ، فكانت عاملة التلكس تدعى نورا أيضا على اسمي ، وكانت مقربة جدا من مدير الشركة ، وذات يوم مشؤوم حمل إلي أحد المستخدمين في الشركة رسالة من المدير وقال لي:"المدير يريدك أن ترسلي هذه الرسالة بسرعة ، وتنتظري رد الشركة الأجنبية عليها".


نظرت إليه في دهشة ، وخمنت بأن هناك خطأ ما!.. فأنا أقوم بطبع الرسائل وعنونتها ، لكن لا شأن لي بإرسالها ، فكيف يطلب مني المدير أن أرسلها ، ثم أنتظر الرد عليها؟!..


تناولت الرسالة ، وقلت للمستخدم الذي حملها إلي وأنا أتصفحها:


"أمتأكد من أن المدير قد أرسلك إلي؟".


وما كدت أكمل ، حتى لفت انتباهي أمر خطير!.. كانت الرسالة تثبت بأن الشركة تمارس أعمالا غير مشروعة ، وتتجر بالبضائع الفاسدة!..


وطار صوابي..


هل تعلم ماذا جاء في الرسالة؟..


من أين لي أن أعرف!.. نظرت إليها مترقبا ، فلم تلبث أن أجابت عن سؤالها بنفسها..


ـ كانت الرسالة تتضمن رد المدير على عرض قدمته له شركة أجنبية تقوم بتصنيع المحاقن الطبية البلاستيكية التي تستعمل لمرة واحدة ، وفيه تعرض الشركة الأجنبية على المدير شراء خمسة ملايين محقنة انتهى تاريخ استعمالها بأسعار زهيدة ، شريطة أن تمددوا تاريخ الاستعمال إلى سنتين إضافيتين حتى نتمكن من تسويقها!...


تململت في مكاني وأنا أصغي لنورا ، رائحة الذئب الأنيق تفوح في حديثها!.. وقفز إلى ذاكرتي دفاع عبد الغني عن الأغذية التي انتهت مدة استهلاكها ، وعزمه على تسويقها ، نفس الأسلوب التجاري الرخيص!...


أيكون عبد الغني الذهبي وراء هذه الجريمة أيضا؟!..


قلت لها كمن يتحزر:


ـ كنت تعملين في شركة عبد الغني الذهبي..


تقلصت ملامح نورا فجأة ، وبان الهلع في عينيها وكأنها قد أصيبت بصعقة كهربائية عنيفة!.. همست وقد غار لون الحياة من وجهها:


ـ كيف عرفت؟


كيف عرفت!.. هو إذن.. ولكن.. ما معنى هذا التغير الذي اعتراها؟.. وأردت أن أوضح لها السبب الذي دعاني لاكتشاف اسم الشركة التي تعمل فيها نورا ، لكنها لم تمهلني!.. وقفت مذعورة وقالت:


ـ أنت منهم!


تساءلت في حيرة:


ـ منهم!.. ممن؟


غمغمت وهي تلم حقيبتها بارتباك:


ـ لا أدري..


ـ لحظة أرجوك..


ـ كلكم ذئاب..


وانطلقت هاربة لا تلوي على شيء!..


حدث كل شيء بسرعة ، فأعاقتني المفاجأة عن التصرف ، ولم ألبث أن تحررت من ذهولي ، فانطلقت خلفها لأستوقفها وأهدئ من روعها ، لكنها غذت السير أمامي ، وأمعنت في الهرب..


لكأنها تهرب أمام وحش!...

No comments:

Post a Comment