Wednesday, March 10, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - العشرون

قضيت بقية النهار بنفس عاث فيها الكدر ، وتنازعتها الأسئلة والأفكار ، فتمزقت بين الشوق إلى أحلام التي غابت فجأة دون سبب مفهوم ، والتفكير بنورا المغلقة بالغموض!. وشعرت بحاجة ملحة للوحدة والراحة والاسترخاء ، لكن كثرة الحالات التي وردت إلى قسم الطوارئ لم تسمح لي بوقت هادئ ، وحانت فرصة الأصيل ، فحملت جهاز الإنذار الذي يصلني بالمستشفى ، ومضيت إلى الحديقة ، لألقي بجسدي المتعب فوق صدرها الأخضر الموشى بالأزاهير











ثمة عصفور زاهي الألوان يلجأ إلى الحديقة مثلي.. يزورها بين الحين والحين.. ينتقل بين أغصانها المتعانقة ، ويعزف ألحانا عذبة تنساب من منقاره الدقيق لتطرب القلوب والأسماع. أين أنت يا عصفوري الجميل؟.. هلم إلي لتثري هذا الأصيل بلحن عذب من ألحانك الرقيقة.. الصمت الثقيل يحول هدوء الحديقة إلى طقس من طقوس الموت.. هلم يا صديقي الطائر ، تعال وغرد ، وبدد بألحانك الجميلة هذا الصمت الذي يكتم الأنفاس!..










ـ وست وست.. وس وس وس وست..










ها هو صديقي العصفور قد جاء ، وفي صدره باقة جديدة من الألحان ، جاء في الوقت المناسب وكأن روحه الصغيرة قد أصاخت السمع لاستغاثات روحي ، فاستجابت لندائها الصامت م حديث الأرواح لا تسمه إلا الأرواح الصديقة الودودة..










تعال أيها العصفور لنعقد صداقة من نوع فريد..










ـ وست وست..










هل أفهم من هذه الجملة الموسيقية أنك موافق؟!..










ـ وست وست..










موافق إذن ، لكنك ـ للأـسف ـ لن تفهمني!.. ما قيمة الصديق إذا لم يفهم صديقه ، ويستشف ما وراء صدره من آلام وأحلام!؟.. إذا بحت لك أيها العصفور بما يثقل صدري ، لظننتني أغرد مثلك على طريقة البشر؟.. ليت العصافير تتكلم مثلنا.. تحدثنا ونحدثها.. نبثها أحزاننا ، ونشكو لها آلامنا.. نبوح لها بما يؤرقنا.. نبوح بطلاقة وحرية دون أن تثقل بوحنا المخاوف والمحاذير والاعتبارات البشرية المعقدة.. نبوح وكأننا نتحدث مع أنفسنا ونخاطب ذواتنا..










آه من هذا العالم. نضب منه الأصدقاء ، غاروا كالماء الذي ينسرب في رمل الصحراء ، هل تفهم يا عصفوري معنى أن يبحث إنسان عن صديق له في عالم العصافير؟ لن تفهم.. خير لك أن لا تفهم ، فروحك الصغيرة لن تتحمل الحقائق المرة التي تقذف بها الحياة أرواحنا المتعبة ، لن تطيق ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.. روحك الصغيرة أيها العصفور الصغير الوديع سترفض عالمنا المريض الذي سادته الذئاب.. ستنفجر وتتمزق وهي ترى الوجه الآخر لحضارة المادة. ستستعذب الموت على حياة أقفرت من القيم ، وتحجرت فيها المشاعر ، ونعقب فيها الغربان..










ظن العصفور أني أداعبه بهذه الكلمات ، فدب فيه المرح ، وجعل يقفز من غصن إلى غصن ، وهو يغرد مزهوا بنفسه ، فتركت مسامعي تغتسل بغنائه العذب وبالغت في الاسترخاء..














ثمة صوت آخر غرد في سمعي فجأة ، فأيقظت همساته الرقيقة قلبي ، وحركت في نفسي أشواقا لذيذة. نهضت واستدرت برأسي نحو مصدر الصوت ، ثم هتف كالملوف الذي العطش:










ـ أحلام!!.. أهلا بك..










لهفتي وجدت صداها على الفور ، قالت وهي تداعب بين أناملها الرقيقة وردة حمراء اللون:










ـ كنت أعرف أني سأجدك هنا.










سألتها في عتاب رقيق:










ـ لماذا غبتِ؟.










ـ لعلك تقصد لماذا أتيت؟










ـ حقا!.. فهمت أنكِ لن تأتي اليوم.










اختارت أحلام كرسيا قريبا من الكراسي المتناثرة في أرجاء الحديقة ، فجلست عليه..










ـ أما لماذا غبت اليوم فلست أدري السبب!.. شعرت هذا الصباح بكآبة ممضة ، ولم أجد في نفسي حماسا للعمل ، فاعتذرت عن الحضور.










ـ ثم قطعت إجازتكِ فجأة!..










ـ هذا ما حدث.. حاصرني ملل وضيق ، فأحسست بأن جدران البيت تلفظني ، فلجأت إلى المستشفى لأبدد الفراغ بعمل مفيد.










قلت وأنا أتربع فوق بساط الحشيش الأخضر:










ـ لقد كان هذا اليوم صعبا عليَ أيضا.










ـ قالوا لي : أنك غادرت المستشفى مرتين هذا الصباح ، وأخبروني بأن هاني كان غاضبا جدا.










ضحكت..










ـ لقد قسوت عليه فعلا ، اغتصبت من وقت راحته أكثر من ساعتين ، لكني وعدته أن أناوب عنه في مناسبة قادمة.










سألت أحلام:










ـ هل وردت اليوم حالات كثيرة..










ـ كان الصباح هادئا كما أخبرني هاني ، لكن ساعات الظهر كانت حافلة بالعمل.. استقبلنا ثلاث حوادث طرق في أقل من ساعة!.










قالت وهي ترنو إليّ في إشفاق:










ـ تبدو متعبا جدا..










ـ لم يكن معي سوى طبيب واحد كيف لا أتعب؟.










ـ وعندما هدأت الحركة جئت إلى هنا.. مثل كل مرة!.










شملت الحديقة بنظرة باسمة ، ولم أنبس ، أردفت أحلام:










ـ أنت دائما تهرب إلى هنا!. ما الذي يشدك إلى الطبيعة إلى هذا الحد؟










ـ البحث عن السلام.










ـ وهل وجدته؟










ـ وجدت منه قطرات لا تسمن ولا تغني من جوع.










ابتسمت أحلام ، وطافت بنظراتها في أرجاء الحديقة ، كان العصفور قد ابتعد ، والشمس قد توارت خلف جدار الأفق ، والصمت قد ران من جديد..










قالت أحلام:










ـ ألا يزعجك هذا الصمت..










ـ ثمة عصفور لطيف يتردد إلى الحديقة من حين لآخر ، ويسليني بألحانه العذبة..










رنت إلي وقالت:










ـ عصفور واحد لا يكفي.. مهما غرد فستبقى ألحانه حزينة ، تملأ النفس بالشجن ، وتحرك في الأعماق الظمأ إلى صديق أنيس..










ـ حاولت أن أعقد معه صداقة فلم أفلح!..










ـ ليست كل الصداقات تغني..










ـ لو رضي العصفور بمصادقتي ، لوجدت في صداقته ما يغنيني!..










همست أحلام بنبرة غلت عليها الود:










ـ هل ضن عليك الناس بصديق حتى ذهبت تطلب أصدقاءك في العصافير؟..










ـ لذت بالصمت ، هذه هي الحقيقة ، إني أفتقد إلى صديق..










لم يعجبها صمتي ، قالت بلهجة عاتبة:










ـ يعني لم تجب!.










ـ صمتي كان هو الجواب.










ـ جوابك فيه بعض المبالغة..










ـ هل تقصدين أني يمكن أن أفوز بالصديق الذي أرجو؟










قالت وهي تغض طرفها في حياء:










ـ انظر حولك..










في كلماتها رسالة واضحة التقطتها بسرعة. ركبني حرج وارتباك. لكني تجاهلت المعنى الذي أرادته أحلام ، وتحايلت عليه بالدعابة ، فأخذت أتلفت حولي متصنعا السذاجة وعدم الإدراك ، فرنت إلي بنظرة باسمة:










ـ ليس بعينيك يا دكتور..










ـ بم ينظر الناس إذن؟










ـ بقلوبهم!.










ـ لم أقرأ في كتب التشريح أن للقلب عيونا!..










ـ لأنك لا تقرأ إلا السطور..










ـ وهل تخفي السطور خلفها غير السطور؟!..










أجابت وهي تمس وجنتها بوردتها مسا خفيفا:










ـ خلف السطور كلمات ومعان لا تخفى على لبيب مثلك.










قلت وأنا أمعن في الهروب:










ـ ذكائي يخونني في كثير من الأحيان..










البسمة الوادعة التي كانت تضيء وجهها الجميل أَفَلَتْ فجأة ، وخبت ومضات الفرح التي كانت تشع من عينيها ، لم تتوقع أن أقابل لعبتها الذكية بهذا البرود. صمتت وأطرقت إطراقة المحزون ، وتململت فوق ثغرها ابتسامة باهتة تحتضر. وتشاغلت بتأمل وردتها ، فاحتوتها بنظراتها الحزينة ، وكأنها نظرات محب يودع حبيبه الوداع الأخير.. حزنها أصابني بالغم ، قلت في محاولة لتبديد الأثر السيئ الذي خلفه الحديث السابق:










ـ هل تذكرين الطفلة اللقيطة؟










أجابت وهي مطرقة تدق الأرض برأس قدمها:










ـ ما شأنها؟










ـ لقد زرتها هذا الصباح.










ـ رفعت إليّ نظرات متسائلة وهمست:










ـ ما الذي دعاك لهذا؟










ـ طافت ذكراها ببالي ، فأحببت أن أطمئن عليها.










قالت أحلام ، وهي تفسح الطريق لابتسامتها الفاتنة لكي تعود لتضيء أسنانا كاللؤلؤ:










ـ فضولك يثير الفضول!










ـ حقا؟!










ـ كيف هي؟










ـ بصحة جيدة..










ـ لابد أنها تلقى رعاية ممتازة..










ـ كيف لا تلقى رعاية ممتازة ، وهي تنمو في أحضان أمها الحقيقية؟










حدجتني أحلام بنظرة ملؤها الدهشة:










ـ هل قلت أمها الحقيقة؟!!.










ـ أجل.. هذا ما يغلب على ظني..










ووريت لأحلام قصة الآنسة الغامضة نورا ، وحدثتها بآخر ما توصلت إليه من استنتاجات..










قالت أحلام ، وقد عادت إليها ابتسامتها الوادعة اللطيفة:










ـ اهتماماتك يا دكتور تدعو للاحترام..










ـ هذا ثناء لا أستحقه..










ـ أبدا. هذه كلمة حق.










ـ يزعجني أحيانا أن ننظر إلى الواجب على أنه تطوع نبيل..










ـ في زمن قل فيه حرص الناس على واجباتهم ، يصبح مجرد أداء الواجب إنجازا رائعا يستحق التقدير..










ـ لا معنى للحياة إذا لم يعشها أحدنا كإنسان..










تنهدت وأرسلت إلى الأفق رنوة حالمة ، ثم قالت:










ـ إني أبحث عن ذلك الإنسان!..










ـ وهل وجدتِه؟!..










أرسلت زفرة ساخرة ، وقالت في تحسر:










ـ وجدته. وجدته منذ زمن بعيد ، لكنه يمعن في الهروب مني.. يحاول أن يضلل خطواتي.. أمد له يدي ، فيخفي يديه.. أعترف له بودي ، فيصفعني بجفائه.. لكأنه يرفضني ، ويغلق قلبه في وجه روحي..














ما الذي يمكن لفتاة عفيفة أن تفعله حتى تعلن حبها دون ابتذال؟.. ماذا تفعل فتاة رفضت كل الناس من أجل فتاها الذي اختارته وأغلقت قلبها على حبه ، ثم لا تجد منه سوى الصد والهروب والتجاهل؟!..














لقد ضاقت أحلام ذرعا بترددي وهروبي ، وها هي تتهيأ للاقتحام. تحاول أن تدك أسوار الحيرة التي تفصل بيني وبينها. لم أستطع أن أرفع نظراتي إلى عينيها اللتين كانتا تلهبان لوما وعتابا.. ماذا أقول لها؟.. هل أعترف له بالحب الجارف العميق الذي يضطرم في صدري؟.. أم أكتم هذا الحب وأقمعه حتى لا أتورط في شراكة غير متكافئة وزواج يبدو لي أنه محكوم بالموت؟!.. من قال بأن الحب يخضع لحسابات المادة؟.. من الذي زرع هذه الخرافة فينا؟.










هزت أحلام رأسها في حزن ، وقالت كاليائسة:










ـ من الحكمة أن يرضى الإنسان ببعض الحقائق المؤلمة ف هذا العالم..










أثارت كلماتها في نفسي شعورا غريبا فقلقل هدوئي.. شعور من أوشك على فقد عزيز.. وخشيت أن تكون أحلام قد يئست مني ، وفهمت مشاعري على نحو خاطئ ، سارعت إلى تبديد فهمها الخاطئ ، فقلت وأنا أتهرب من نظراتها العاتبة الحزينة:










ـ أحلام. أنت تستعجلين الأمور.










لم تكترث بكلامي. سألت فجأة:










ـ هل قرأت عن خديجة؟










ـ بنت خويلد؟










ـ أجل. زوجة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .










ـ قرأت.










ـ ماذا فعلت عندما أحبت محمدا؟










ـ أرسلت إليه من يخبره بأنها تحبه.










ـ ماذا لو أقدمت فتاة على فعل هذا الفعل في مجتمعنا اليوم؟










ـ نحن في عصر مختلف..










قالت في إصرار:










ـ نعم. نحن في عصر مختلف ، لكن المرأة والرجل ما زالا هما كما كانا أول مرة. الشفرات الوراثية لا تؤمن بالعصور.. إنها رسالة خالدة منذ الأزل.. رسالة ثابتة تحمل خصائص الأنثى وخصائص الذكر.. الظروف تختلف ، ووسائل الحياة تتبدل ، لكن جوهر الإنسان ثابت لا يتغير..










إنها محاورة عنيدة تعرف ما تريد!.. هذه المناظرة الفكرية بدأت تفسد جمال الأصيل. لابد أن يصل الحوار إلى نهاية مفيدة ، ولكن.. هل ستنتصر علي بالضربة القاضية ، وتعلن حبها لي في صراحة حاسمة؟.. هل ستتراخى إرادتي وتسمخ للحب الذي يشتعل بين ضلوعي أن يفصح عن نفسه ، ويتحدى كل معادلات العقل الذي يقف حاجزا بيني وبين من أحب؟!.. أيتها الفتاة الرقيقة التي وضعها القدر في دربي.. دعيني أفكر في قراري بهدوء. لا تلجئيني إلى قرارات حظ القلب فيها يفوق حظ العقل..










وأدركت بأنه لا مفر من المواجهة ، فوجدتني أسألها فجأة بلا مقدمات:










ـ ماذا عن هاني؟










فوجئت بسؤالي ، قالت بلا تردد:










ـ لقد اعتذرت له.










ـ إنه أقدر على إسعادك.










ـ لماذا تعتقد ذلك؟










ـ لأنه أقرب إليك طبقيا.










تعكرت ملامحها بحمرة الغضب ، قالت بحدة:










ـ لم أتوقع منك أن تفكر بهذه الطريقة!..










أربكني العتب الذي أطل من عينيها ، قلت موضحا:










ـ المادة تلعب دورا حاسما في حياتنا ، شئنا أم أبينا.










رفعت رأسها في كبرياء وقالت بثقة:










ـ أنا لا أبحث عن المادة.










ـ قد لا تبحثين عنها ، لكنك لن تستغني عنها..










هتفت في إصرار:










ـ بل أستغني عن كل أموال الدنيا وجواهرها من أجل أن أفوز بإنسان نبيل يفهم الحياة كما أفهمها.. بمعانيها السامية وآفاقها الرحيبة.. الحياة النظيفة الرفيعة التي تليق بإنسان له عقل وقلب وروح.. لا حياة الحيوانات الشاردة في الغابة التي تحركها الغرائز والأطماع. لقد ذقت سعادة المادة فلم أجد لها طعما!. خذ كل ملاييني وأملاكي ، وأعطني كلمة حنان صادقة تشعرني بأن من حولي بشر أسوياء ، وليسوا تماثيل أو آلات مبرمجة تؤدي دورا رتيبا محددا لم يخلق له الإنسان.. نعم.. البشر من حولنا تحولوا اليوم إلى آلات تتحرك وفق برنامج مرسوم.. برنامج كبرامج الكمبيوتر التي يزود بها الإنسان الآلي .. هذا البرنامج يحمل رسالة واحدة.. رسالة تتلخص بكلمتين: اكسب أكثر.. اربح أكثر.. اجمع أكثر.. بأية وسيلة؟.. لا يهم.. على حساب من؟.. لا يهم.. على أشلاء من؟.. لا يهم.. الحياة فرصة فاهتبلها.. احصد الفرص فقد لا تعود.. لا يهم من زرع ، المهم من يحصد في النهاية.. الشاطر من يضحك في الآخر.. هكذا نحن الآن.. حصادات بشرية عمياء.. لا تعرف على ماذا تدوس ، لكنها يجب أن تصل إلى نهاية الشوط وقد جمعت أقصى ما أمكنها من الحصاد..










كانت أحلام تتحدث بتدفق وحماس.. وكان جوهرها النقي يتوهج بالصدق ويلمع بالبراءة.. شعرت وأنا أستمع إليها بأني أمام ملاك طاهر يحمل رسالة السماء إلى الأرض.. أمام داعية جليل ألقى الدنيا خلف ظهره ، وجاء يبشر بعالم فاضل لا تستعبده المادة.. رنوت إليها بنظرات ولهى تفيض بالوجد ، ورحت أصغي إليها وهي تتابع هدرها العذب.










كانت تقول وهي في ذروة الانفعال:










ـ لو كانت الملايين تصنع السعادة ، لكنت أسعد فتاة أنجبها أب ، لكن كل الملايين التي تنتظرني.. كل العقارات والشركات والأملاك التي ستؤول إلي.. كل هذه الثروة العريضة التي يجنيها لي أبي ، لا تساوي عندي كلمة حب خالصة منزهة عن المصالح والرغبات.. ثم صمتت أحلام ، وجعلت ترتعش من فيض التأثر والانفعال ، ولم تلبث أن انفجرت باكية ، فأخفت وجهها الباكي خلف كفيها ، وبقيت كذلك برهة ريثما هدأت ، ثم انزلقت بكفيها ، فأسفرت عن وجه مخضل غسلته الدموع ، وقد أغمضت عينيها إغماضة من ينشد الراحة والخلاص ، وألقت برأسها إلى الخلف ، فبدت كعابدة متبتلة تستغرق في خشوع عميق..










أدركت أخيرا بأني أسير يحاول عبثا أ ن يهرب من قدره.. عاشق يقمع صوت قلبه بقسوة.. مكابر عنيد يذوب حبا ويأبى أن يعترف.. من يستطيع أن يصمد أما فتاة لها رقة الأنثى وروح الملائكة؟!..










قالت وهي تستيقظ من إغماضتها الخاشعة:










ـ أنت تفهمني.. أليس كذلك يا دكتور صلاح؟










قلت وأنا مستسلم لطغيان حبها الجارف:










ـ هل تعتقدين أن أباك سيوافق على زواجنا؟










أشرقت عيناها بنظرة باسمة يتألق فيها الفرح ، فقد أدركت أني لم أخذلها ، فاحمرت حتى حاكت حمرتها الفاتنة لون وردتها الجميلة ، قالت وهي توشح كلماتها بابتسامة وادعة تنطق بالرضى:










ـ أحقا.. أحقا أنت تبادلني نفس المشاعر؟!..










أجبتها بابتسامة مطمئنة ، وقلت:










ـ أريد أن أعرف رأي والدك..










ـ أنا لا أعرف رأي والدي ، لكني أنا التي سأتزوج وأنا صاحبة القرار..










ـ الأمور في مجتمعنا لا تجري بهذه البساطة..










ـ سأمهد للأمر مع أبي..










ـ وإذا رفض؟










ـ سأرفض رفضه..










ـ وإذا رفض؟!..










رمقتني بطرف عينيها ، وتساءلت:










ـ هل هذا هو سبب ترددك؟










ـ أريد أن أعد للأمر عدته..










دمعت عيناها وقالت مشفقة:










ـ لابد أن ينتثر الحب في النهاية..










علقت كالحالم:










ـ ليت الحب ينتصر في هذا العالم!..










تساءلت وقد عاثت في عينيها نظرة متوجسة:










ـ هل يمكن أن يقف أبي في وجه سعادتي؟..










ـ قد يقاوم اختيارك باسم مصلحتك ومستقبلك!..










قالت في ضراعة:










ـ صلاح.. أرجوك.. لا تعكر هذه اللحظات الرائعة بالهواجس المزعجة..










ـ ما زلت أريد أن أعرف..










ـ ماذا؟..










ـ ماذا لو كان رفض أبيك قاطعا؟!..










اربد وجهها فجأة ، وغشيته كآبة خفيفة ، ولم تلبث أن نهضت ودارت حول كرسي الحديقة الذي كانت تجلس عليه ، وقالت بعد صمت وتفكر ، وقد لمعت عيناها بأنداء من الدمع:










ـ صلاح.. إذا لم يوافق والدي على زواجي منك ، فلن تجمعني الحياة برجل من بعد..










ثم استدارت نصف استدارة ، وجعلت تداعب غصنا قد تدلى من إحدى الأشجار ، وكأنها تداري حياء وانفعالا جديدا أججته كلماتها المفعمة بالإخلاص ، وران علينا صمت لذيذ ، وهبت على الحديقة نسمات ربيعية رقيقة ، تهمس لنا بقصيدة لم يلقها شاعر ، ولم يغرد بها عصفور!..

No comments:

Post a Comment