قال العم درويش وهو يقدم لي فنجانا شهيا من القهوة:
ـ لم يسألوا عن الطفلة ، أليس كذلك؟
ـ ها أنت مطلع على آخر الأنباء..
تنهد العم درويش وقال وهو يسحب كرسيا ليجلس معي:
ـ هناك أمر يختمر في بالي منذ أيام ، وأريد أن أشاورك فيه..
تناولت رشفة من فنجاني ، وقلت وأنا أرنو إليه في إشفاق:
ـ أعرف ما تريد قوله ، الطفلة ؟ أليس صحيحا؟
ـ هل أستطيع أن آخذها وأربيها؟
ـ تفعل خيرا لو أقدمت على ذلك..
سرت في جسد العم درويش شحنة من الحماس ، وأشرق وجهه بالبشر والحبور ، هتف كالحالم:
ـ سأربيها أحسن تربية ، وسأدللها دلالا تغار منه بنات القصور ، لكم أنا في شوق إلى الأطفال يا دكتور!..
ـ أتفهم مشاعرك ، أنت تستحق كل خير يا عم درويش..
قال العم درويش وهو يستجيب لشحنة جديدة من البشر والنشاط:
ـ لعلك لا تتصور مقدار حماس زوجتي للفكرة ، إنها تلح عليَّ في الصباح والمساء على أخذ الطفلة لنربيها ونرعاها ، وهي تغرق الطفلة بالقبلات والدموع ، وتشبعها ضما ولثما وتقبيلا ، إننا نحيا حياة قاسية بلا أطفال..
كان المسكين يتكلم بحرقة وأسى ، وأحسست بلسع الحرمان الذي يعانيه هو زوجته فقلت أواسيه:
ـ لا تحزن يا عم درويش لعل الله قد شاق الطفلة إلينا لتقر بها عينا أنت وزجتك..
قال العم درويش في لهفة طاغية:
ـ كيف أستطع أخذها؟
ـ عليك أن تتقدم بطلب إلى ملجأ الأيتام الذي ستحول إليه..
ـ ولماذا لا أستلمها من هنا؟ سأوقع على كل الضمانات والتعهدات اللازمة..
ابتسمت مشفقا ، وقلت:
- أنت مستعجل أكثر مما يجب!..
أطرق العم درويش وهو يهز رأسه في حزن ، ثم قال بنبرة تنم عن لهفته وأشواقه الملتهبة:
ـ العمر يمضي يا دكتور ، ولم يبق منه سوى القليل ، وأنا أريد أن أودع الدنيا على صوت طفل يقول لي بابا... بابا ، ماما... أغنية جميلة تعطر البيوت الحزينة ، وترد إليها الروح .. أغنية عذبة حرمناها واشتقنا إليها..
نريد أن نسمعها ولو من طفلة لم ننجبها ، وزوجتي يا دكتور صلاح امرأة طيبة ، قدمت لي الحب والإخلاص ولا أستطيع أن أرفض لها طلبا ، لقد ولعت بالطفلة وتعلق قلبها بها ، ويجب أن أحقق لها أمنيتها ، أرجو ألا تفهم أني رجل ضعيف الشخصية أو كما يقول أخي أبو رشيد: رجل محكوم على أمري أصغي لكلام النساء ، الأمر ليس كذلك ، كل ما في الأمر أني أحب زوجتي وأحترمها وأقد الأيام الطيبة التي عشناها معا ، أريد أن أقدم لها خدمة تكافئ تضحيتها من أجلي ، سأعترف لك بشيء..
أنا أعرف أن العيب فيَّ ، أعرف أني الذي لا أنجب ، وهي تعرف ، لكنها امرأة وفية ، رفضت أن ننفصل وتتزوج غيري ، قالت لي يومها والدموع في عينيها: لقد قضينا أجمل سنيَّ العمر محرومين من رائحة الأطفال ، فحمدنا الله ، ورضينا بالمكتوب ، فلماذا تريد أن توقظ الجرح الآن وقد كاد أن يلتئم؟
دعنا من هذه السيرة الله يخليك..
ومسح العم درويش دمعة أفلتت منه رغما عنه ثم أردف قائلا:
ـ يجب أن أكافئها يا دكتور ، أليس كذلك؟..
أثار حديث العم درويش مشاعري ، همست وأنا أرنو إليه بانفعال:
ـ أنت مثال طيب للإخلاص والوفاء ، يا عم درويش!..
هتف في ضراعة:
ـ لم تقل لي بعد ، متى أستطيع أخذ الطفلة؟
تناولت رشفة أخرى من فنجاني الذي كاد أن يبرد ، ثم قلت موضحا:
ـ جرت العادة يا عم درويش أن يبقى الطفل اللقيط مدة في الملجأ حتى تكون هناك فرصة لمعرفة أبويه الشرعيين ، وقد تصل هذه المدة إلى بضعة أشهر ، ثم يصبح الباب مفتوحا لمن أراد أن يتول رعاية الطفل أو تربيته..
هتف العم درويش:
ـ هل تعني أن الطفلة يمكن أن...
ـ من يدري؟ قد يظهر أهلها في آخر لحظة..
علته كآبة وقلق ، ولاذ بالصمت ، ابتسمت ، وقلت له:
ـ لماذا أنت واجم؟ لو كان أهلها حريصين عليها لما تخلوا عنها..
قال العم درويش بنبرة حائرة:
ـ لا ادري لماذا تعلق قلبنا بهذه الطفلة بالذات!!..
ثم استدرك قائلا:
ـ هل يتركون لنا حرية اختيار اسمها؟..
ـ أتفكر لها باسم؟
سرح العم درويش ببصره ، وقال كمن داعبه حلم لذيذ:
ـ نعم سأسميها أمل ، فهي الأمل العذب الذي راودنا منذ زمن بعيد..
ثم راح العم درويش يردد الاسم وكأنه يختبر وقعه على الأسماع:
ـ أمل.. أمل.. يا سلام ، إنه أسم لطيف أليس كذلك؟ أمل سأسميها أمل ، وسألحقها بنسبي..
قاطعته محذرا:
ـ إلا هذه يا عم درويش!..
ـ لماذا؟
ـ حتى لا تخدع الطفلة مرة أخرى..
ـ أخدعها؟ كيف؟..
ـ يكفي أن الطفلة قد جاءت إلى الوجود ضحية خطيئة ، وليس من العدل أن تعيش فيه ضحية كذله ، أن تلحقها بنسبك يعني أنها ستنشأ وهي تظن أنك أبوها الحقيقي ، وسيتفتح وعيها على هذا الوهم ، وفي منتصف الطريق تكتشف الحقيقة ، وتعرف أنك لست أباها الشرعي ، وعندها ستعيش الطفلة مأساة حقيقية ، ستلاحقها الشكوك وتحاصرها التساؤلات ، وتخنقها الأوهام..
كن واضحا منذ البداية ، جرعها الحقيقة رشفة رشفة ، وكن واثقا من أن حنانك وحبك ورعايتك لها في الوشيجة الحقيقية التي ستجمع بينكما ، الأنساب وحدها يا عم درويش لا تصنع الحب ، الحب هو الذي يصنع الأنساب..
فكر مليا ثم همس:
ـ صدقت..
وغرق العم درويش في خواطره فانتشلته منها قائلا:
ـ ثمة حقيقة أخرى يا عم درويش يجب أن أصارحك بها..
ـ تفضل..
قلت في دعابة:
ـ لقد بردت قهوتي قبل أنت أنهيها ، وأنا أحب أن أشرب قهوتك ساخنة ، كيف سنعالج هذه المشكلة؟..
ـ لم يسألوا عن الطفلة ، أليس كذلك؟
ـ ها أنت مطلع على آخر الأنباء..
تنهد العم درويش وقال وهو يسحب كرسيا ليجلس معي:
ـ هناك أمر يختمر في بالي منذ أيام ، وأريد أن أشاورك فيه..
تناولت رشفة من فنجاني ، وقلت وأنا أرنو إليه في إشفاق:
ـ أعرف ما تريد قوله ، الطفلة ؟ أليس صحيحا؟
ـ هل أستطيع أن آخذها وأربيها؟
ـ تفعل خيرا لو أقدمت على ذلك..
سرت في جسد العم درويش شحنة من الحماس ، وأشرق وجهه بالبشر والحبور ، هتف كالحالم:
ـ سأربيها أحسن تربية ، وسأدللها دلالا تغار منه بنات القصور ، لكم أنا في شوق إلى الأطفال يا دكتور!..
ـ أتفهم مشاعرك ، أنت تستحق كل خير يا عم درويش..
قال العم درويش وهو يستجيب لشحنة جديدة من البشر والنشاط:
ـ لعلك لا تتصور مقدار حماس زوجتي للفكرة ، إنها تلح عليَّ في الصباح والمساء على أخذ الطفلة لنربيها ونرعاها ، وهي تغرق الطفلة بالقبلات والدموع ، وتشبعها ضما ولثما وتقبيلا ، إننا نحيا حياة قاسية بلا أطفال..
كان المسكين يتكلم بحرقة وأسى ، وأحسست بلسع الحرمان الذي يعانيه هو زوجته فقلت أواسيه:
ـ لا تحزن يا عم درويش لعل الله قد شاق الطفلة إلينا لتقر بها عينا أنت وزجتك..
قال العم درويش في لهفة طاغية:
ـ كيف أستطع أخذها؟
ـ عليك أن تتقدم بطلب إلى ملجأ الأيتام الذي ستحول إليه..
ـ ولماذا لا أستلمها من هنا؟ سأوقع على كل الضمانات والتعهدات اللازمة..
ابتسمت مشفقا ، وقلت:
- أنت مستعجل أكثر مما يجب!..
أطرق العم درويش وهو يهز رأسه في حزن ، ثم قال بنبرة تنم عن لهفته وأشواقه الملتهبة:
ـ العمر يمضي يا دكتور ، ولم يبق منه سوى القليل ، وأنا أريد أن أودع الدنيا على صوت طفل يقول لي بابا... بابا ، ماما... أغنية جميلة تعطر البيوت الحزينة ، وترد إليها الروح .. أغنية عذبة حرمناها واشتقنا إليها..
نريد أن نسمعها ولو من طفلة لم ننجبها ، وزوجتي يا دكتور صلاح امرأة طيبة ، قدمت لي الحب والإخلاص ولا أستطيع أن أرفض لها طلبا ، لقد ولعت بالطفلة وتعلق قلبها بها ، ويجب أن أحقق لها أمنيتها ، أرجو ألا تفهم أني رجل ضعيف الشخصية أو كما يقول أخي أبو رشيد: رجل محكوم على أمري أصغي لكلام النساء ، الأمر ليس كذلك ، كل ما في الأمر أني أحب زوجتي وأحترمها وأقد الأيام الطيبة التي عشناها معا ، أريد أن أقدم لها خدمة تكافئ تضحيتها من أجلي ، سأعترف لك بشيء..
أنا أعرف أن العيب فيَّ ، أعرف أني الذي لا أنجب ، وهي تعرف ، لكنها امرأة وفية ، رفضت أن ننفصل وتتزوج غيري ، قالت لي يومها والدموع في عينيها: لقد قضينا أجمل سنيَّ العمر محرومين من رائحة الأطفال ، فحمدنا الله ، ورضينا بالمكتوب ، فلماذا تريد أن توقظ الجرح الآن وقد كاد أن يلتئم؟
دعنا من هذه السيرة الله يخليك..
ومسح العم درويش دمعة أفلتت منه رغما عنه ثم أردف قائلا:
ـ يجب أن أكافئها يا دكتور ، أليس كذلك؟..
أثار حديث العم درويش مشاعري ، همست وأنا أرنو إليه بانفعال:
ـ أنت مثال طيب للإخلاص والوفاء ، يا عم درويش!..
هتف في ضراعة:
ـ لم تقل لي بعد ، متى أستطيع أخذ الطفلة؟
تناولت رشفة أخرى من فنجاني الذي كاد أن يبرد ، ثم قلت موضحا:
ـ جرت العادة يا عم درويش أن يبقى الطفل اللقيط مدة في الملجأ حتى تكون هناك فرصة لمعرفة أبويه الشرعيين ، وقد تصل هذه المدة إلى بضعة أشهر ، ثم يصبح الباب مفتوحا لمن أراد أن يتول رعاية الطفل أو تربيته..
هتف العم درويش:
ـ هل تعني أن الطفلة يمكن أن...
ـ من يدري؟ قد يظهر أهلها في آخر لحظة..
علته كآبة وقلق ، ولاذ بالصمت ، ابتسمت ، وقلت له:
ـ لماذا أنت واجم؟ لو كان أهلها حريصين عليها لما تخلوا عنها..
قال العم درويش بنبرة حائرة:
ـ لا ادري لماذا تعلق قلبنا بهذه الطفلة بالذات!!..
ثم استدرك قائلا:
ـ هل يتركون لنا حرية اختيار اسمها؟..
ـ أتفكر لها باسم؟
سرح العم درويش ببصره ، وقال كمن داعبه حلم لذيذ:
ـ نعم سأسميها أمل ، فهي الأمل العذب الذي راودنا منذ زمن بعيد..
ثم راح العم درويش يردد الاسم وكأنه يختبر وقعه على الأسماع:
ـ أمل.. أمل.. يا سلام ، إنه أسم لطيف أليس كذلك؟ أمل سأسميها أمل ، وسألحقها بنسبي..
قاطعته محذرا:
ـ إلا هذه يا عم درويش!..
ـ لماذا؟
ـ حتى لا تخدع الطفلة مرة أخرى..
ـ أخدعها؟ كيف؟..
ـ يكفي أن الطفلة قد جاءت إلى الوجود ضحية خطيئة ، وليس من العدل أن تعيش فيه ضحية كذله ، أن تلحقها بنسبك يعني أنها ستنشأ وهي تظن أنك أبوها الحقيقي ، وسيتفتح وعيها على هذا الوهم ، وفي منتصف الطريق تكتشف الحقيقة ، وتعرف أنك لست أباها الشرعي ، وعندها ستعيش الطفلة مأساة حقيقية ، ستلاحقها الشكوك وتحاصرها التساؤلات ، وتخنقها الأوهام..
كن واضحا منذ البداية ، جرعها الحقيقة رشفة رشفة ، وكن واثقا من أن حنانك وحبك ورعايتك لها في الوشيجة الحقيقية التي ستجمع بينكما ، الأنساب وحدها يا عم درويش لا تصنع الحب ، الحب هو الذي يصنع الأنساب..
فكر مليا ثم همس:
ـ صدقت..
وغرق العم درويش في خواطره فانتشلته منها قائلا:
ـ ثمة حقيقة أخرى يا عم درويش يجب أن أصارحك بها..
ـ تفضل..
قلت في دعابة:
ـ لقد بردت قهوتي قبل أنت أنهيها ، وأنا أحب أن أشرب قهوتك ساخنة ، كيف سنعالج هذه المشكلة؟..
No comments:
Post a Comment