Sunday, March 7, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الفصل الثالث عشر

وصلت إلى البيت بعيد العاشرة بقليل ، فوجدت الأسرة ملتفة حول جهاز التلفزيون المعتاد. ألقيت تحية المساء ، فردت عليَّ الشفاه بحركة آلية ، بينما ظلت العيون مشدودة إلى الشاشة الفضية تراقب ما يدور عليها بشغف. هذا الجهاز الأناني المغرور بات يثير حنقي ، إنه يستطيع أن يلفت الأنظار إليه بقوة ، ويستأثر بها!! قديما.. عندما كنت طفلا صغيرا ، كنت نجم العائلة ، كان الجميع يلتفون حولي ، ويراقبون حركاتي وتصرفاتي.. جدي وجدتي.. أبي وأمي.. وعمي.. حتى عني الثاني الذي كان يدعي بأنه لا يحب مخالطة الأطفال ، كان يستثني من هذا الموقف ، ويقول: " إلا صلاح.." ، ثم يمضي الوقت في محادثتي ومداعبتي..



وعندما ددخل التلفزيون بيتنا انسحبت من تحت الأضواء وتركت الساحة للنجم الجديد الذي يملك قدرة على التسلية والإبهار تفوق تصرفاتي الطفولية البريئة ، وانضممت إلى حلقة المتفرجين. أشاهد بباي وميكي ودونالد دك ، وأتعدى على برامج الكبار ، فأشاهد التمثليات العربية وأفلام الكاوبوي ونشرات الأخبار ، وكبرت قليلا ، فتوطدت علاقتي بصديقي الجديد ، وصرت أرافقه من الافتتاح حتى الختام ، ثم أوقظ جدي الذي كان يكبو وهو جالس أمام الشاشة الصغيرة ، فينهض من كبوته ، ثم يودعني ويمضي لينام..


منذ أن دخل بيتنا عصر التلفزيون أصبحت الروابط العائلية فيه ضعيفة ، انحسرت من حياته سهرات الأنس ، وليالي السمر ، وغادرت منه أحاديث العائلة المفعمة بالحياة ، واختفت النقاشات المحببة التي كانت تدور حول الحي والمدينة والوطن الكبير.. حتى الأقرباء عندما كانوا يزوروننا ، كانوا يتبادلون معنا كلمات الود والمجاملة على عج ، ثم ينضمون إلى حلقة المتفرجين ، فيجلس الجميع أمام التلفزيون بصمت وهدوء ، وكأنهم يؤدون الطقوس البوذية..






اخترت مكانا بين أمي وأبي ، وكثيرا ما كنت أزاحمهما ، لأجلس بينهما ، فيتكلف أبي التأفف مداعبا ، وتضحك أمي وهي تفسح لي مكانا بينهما..


سألني والدي عما مر بي في المستشفى من حوادث وحالات ، شرعت أحدثه عن حالة طفل تناول علبة دواء كاملة في غفلة من والديه ، فأصيب بالتسمم ، غير أن والدي لم ينتظر حتى يستمع إلى بقية القصة ، فقد شده مشهد من مشاهد الفلم العربي الذي كانت تعرضه الشاشة ، وهمت أمي بالنهوض لتعد لي طعام العشاء ، فأمسكت بيدها ، ورجوتها أن تبقى..


قلت لها وأنا أرتاح برأسي فوق كتفها:


ـ لا أشعر بالجوع ، ابق بجانبي..


ربتت أمي على يدي في حنان ، وقالت وهي ترمقني بنظرات متفحصة:


ـ ما بك؟.. تبدو مهموما مشغول البال!..


التفت أخي الأوسط الذي يصغرني مباشرة ، وقال بنبرة احتجاج:


ـ بعض الصمت يا جماعة.. دعونا نتابع الفلم..


نظرت إليه وابتسمت.. إنه دائما مشدود إلى التلفاز.. تنتزعه المسلسلات والأفلام من محيط العائلة لتضعه في أجوائها الخاصة ، قلت لأمي:


ـ ابنك مهووس بهذه الشاشة ، ولن يتخلص من شغفه حتى يتزوج..


ابتسمت أمي وقالت في حزم وهي تشملني بنظرة ودوددة:


ـ لن يتزوج أحد قبلك..


التقط أخي الأصغر كلمات أمي فقال مداعبا:


ـ أخي الكبير طيب القلب ، وسيمنحني دورة بلا شك..


لكزه أخي الأوسط بمرفقه وقال:


ـ اصمت ، دعنا نتابع الفلم...


ـ إنه فلم سخيف..


ـ إذا كان لا يعجدبك فاذهب إلى الغرفة الأخرى..


ـ أريد أن أسهر في هذه الغرفة..


واحتدم بينهما النقاش ، وكاد يتفاقم ، لولا أن تدخل والدي ، فحسمه بصرخة رادعة ، وقالت أمي في إنكار غاضب:


ـ بدأت أكره هذا الجهاز الذي يثير الصراع بين الأشقاء!..


قلت لأمي مهدئا:


ـ دعيهما ولا تكترثي بملاسناتهما ، إياك أن تظني بأن أولادك نسخة واحدة..


عاد أخي الأوسط يرجونا في ضراعة:


ـ أرجوكم يا جماعة ، هذا أول فلم ممتع أراه منذ أشهر ، دعوني أشاهده بهدوء..


أشفقت على أخي ، وذهبت إلى غرفتي ، لحقت بي أمي بعد قليل وهي تحمل فنجانا من الشاي ، قالت وهي تغلق الباب خلفها:


ـ أنت اليوم لست أنت!..


ضحكت:


ـ هل هذه أحجية؟


ـ أتشكو من شيء؟


ـ أبدا!


ـ أنت عاشق..


ـ عاشق؟!..


ـ هل تنكر؟


جلست كالمستسلم وقلت:


ـ قلب الأم أدق رادار في العالم!


وضعت الشاي ، وأقبلت تقول بنبرة فرحة:


ـ يعني كلامي صحيح!


ـ لا أدري يا أماه.. قد تكونين على حق ، لعلك تفهمينني أكثر مما أفهم نفسي ، لعل روحي تبوح لك بما تخفيه عني.. لا أدري يا أماه ، لا أدري ، الحيرة تأكلني!.. قد أكون عاشقا ، وقد أكون تائها ، في الحقيقة أنا حائر!..


جلست بقربي ، وقالت:


ـ أخبرني من هي التي تشغلك ، وأنا سأبدد حيرتك..


همست وأنا أستحضر في خيالي طيف أحلام:


ـ فتاة جميلة تقتحم قلبي بقوة.. فتاة رقيقة لها نفس كبيرة وخلق نبيل.. لكأنَّ كل المعاني السامية قد اجتمعت فيها ، وشكلت جوهرها الطاهر البريْ..


ـ ما اسمها؟


ـ أحلام.


ـ اسم جميل.


ـ حقا؟


ـ كيف تعرفت عليها؟


ـ زميلتي في المستشفى.


ـ لا أذكر أنك حدثتني عنها!


قلت وأنا ألقي برأسي على مسند الكنبة:


ـ كنت لا أهتم بها كثيرا ، أو لعلي لم أرد أن أهتم بها من قبل!.. كنت أنظر إليها على أنها مجرد زميلة في العمل ، ألقاها كل يوم كما ألقى كل زملائي في المستشفى ، وأبادلها احتراما باحترام ، لكني انتبهت أخيرا إلى شيء ، شعرت أنها مهتمة بي إلى حد أكثر من عادي..


لاحظت أنها تلاحقني بنظراتها ، تراقب تصرفاتي ، تلتقط كلماتي ، تريد أن تعرف عني كل شيء!!.


حاولت أن أتهرب منها ، لكني لم أفلح ، ثمة شيء يشدني إليها ، وآخر يشدني منها ، ليتني لم أعرفها من قبل!..


عاثت الحيرة في وجه أمي ، فقالت كالشاردة:


ـ أنا لا أفهمك ، لماذا تهرب منها إذا كانت خلوقة وجميلة؟ ماذا تريد أكثر من ذلك؟


ـ ليست هنا المشكلة..


ـ ألا تجد في نفسك ميلا إليها؟


ـ بل أميل إليها بقوة..


ـ حيرتني معك!


ـ قد لا أكون لائقا بها ماديا..


ـ ماديا؟!.. أفصح بوضوح ، وكفاك ألغازا؟؟


رنوت إليها وأنا أبتسم:


ـ كلامي واضح ، ظروف أهلها المادية أفضل من ظروفنا ، ولا أستطيع أن أوفر لها العيش الرغيد الذي تعودت عليه..


ـ لماذا؟ هل هم أغنى منا بكثير؟


ـ أنعد نحن في الأغنياء؟


ـ الحمد لله على كل حال..


ـ لو شعر الناس جميعا بأنهم أغنياء لعاشوا في سعادة!


أردفت أمي فيما يشبه السؤال:


ـ أغنى منا؟


ـ بكثير.


أطرقت متفكرة ، ثم قالت فجأة ، وكأنها وضعت يدها على الحل:


ـ إذا كانت فتاة عاقلة وأصيلة ـ كما تصفها ـ فستصبر على ظروفك ، وتكافح معك حتى تصنعا المستوى اللائق الذي ترتاحان إليه.


ابتسمت كالحالم ، وقلت:


ـ في حديثها اليوم استعداد واضح للصبر والكفاح..


هتفت أمي وقد أضاءت وجهها ابتسامة عذبة:


ـ آه.. فهمت ما الذي أثار تفكيرك بها الليلة ، لا شك أنك قد خضت معها في حديث خاص..


أبدت ملاحظتها بابتسامة ، ثم تناولت فنجان الشاي ، ورحت أرشف منه في صمت ، وأردفت أمي قائلة:


ـ ماذا كان موضوع الحديث؟


ـ حدثتها عنكِ.. عن أبي.. عن ظروفنا وأحوالنا.. أردت أن أضعها في الصورة الصادقة حتى لا تذهب بعيدا في تطلعاتها.. قلت لها بأننا عائلة بسيطة راضية من هذه الحياة بالحد الأدنى من السعادة المادية ، وتعوض عنه بقدر كبير من السعادة النفسية..


قالت أمي وهي ترمقني بنظرة فيها دعابة واختبار:


ـ ماذا قلت لها عني؟


ـ قلت بها بأنك أمهر طباخة في العام..


ـ ألا يعجبك في أمك سوى طبخها؟!..


ـ بل يعجبني فيها كل شيء..


ـ ماذا قلت لها أيضا.


ـ قلت لها بأنك أم مثالية ، وسيدة من الطراز الأول ، تحبين النظافة حتى وجه الوسوسة ، وتصنعين من بيتك جنة صغيرة ، أزهارها من الحب ، وأنهارها من الحنان..


ضحكت أمي في فخر ، وتساءلت وهي تشير إلى نفسها:


ـ أأنا أصنع كل هذا؟


قلت في مكر:


ـ هكذا أوهمتها..


ـ تقصد أني لست هكذا؟


ـ أنت التي لا تريدين أنت تصدقي..


ـ وماذا قالت لك؟


ضحكت فجأة.. ضحكة وأنا أجد نفسي أمام تحقيق نسائي طريف..


سألت أمي وعلى شفتيها ابتسامة حائرة:


ـ ما الذي يضحكك؟..


ـ لا شيء.


ـ بل هناك شيء!..


ـ مجرد خاطر..


ـ حدثني به.


ـ هل سيطول هذا التحقيق؟


ـ لم تقل لي..


ـ ماذا؟


ـ ماذا قالت لك؟..


تنهدت وسرحت بخيالي ، وكأني أغيب في حلم لذيذ ، قلت وأنا أسترجع الأثر العذب الذي أحدثته كلمات أحلام في نفسي:


ـ قالت: إنها تتمنى لو كانت أختي..


هتفت أمي في فرح ، وقد طغت على وجهها ابتسامة عميقة:


ـ البنت تحبك يا صلاح ، فماذا تنتظر؟


ـ ما أدراك؟


ـ كفاك تجاهلا وخبثا ، أنت تعرف ذلك ، لكنك لا تريد أن تعترف..






ودخلت علينا أختي الكبرى في البنات ، فصمتنا ، تراجعت فجأة إلى الخلف ، وتوارت خلف الباب الموارب قليلا ، فلم يعد يبدو منها سوى رأسها المائل إلى الأمام ، قالت وهي تهم بالانسحاب:


ـ فهمت.. اجتماع مغلق!


ثم أغلقت الباب ، فناديتها:


ـ لماذا لا تدخلين؟


ـ ملامحكما تشي بأنكما تتداولان سرا!


ـ قالت أمي ضاحكة:


ـ الأمر ليس سرا ، أخوك صلاح يخطط لاستقبال أخت جديدة لكم في البيت..


هتفت أختي متظاهرة بالذعر ، كمن فوجئ بأمر صاعق:


ـ هل كان أبي متزوجا من امرأة أخرى؟!..


دوت ضحكاتنا في أرجاء الغرفة ، وقالت لي أمي من خلال الضحكات:


ـ أختك هذه لا تفكر غلا في الأمور السيئة..


قالت أختي وهي تجلس على يميني:


سأكون سعيدة لو عرفت من هي أختي الجديدة.


ثم أردفت وهي تقرصني من يدي:د


ـ لابد أنها مغرمة بأخي الكبير..


قبضت على شعرها المتدلي خلف رأسها كذيل الحصان ، ثم قلت وأنا أشده في رفق:


ـ هل بدأت حرب التعليقات السخيفة؟


صاحت وهي تتظاهر بالألم:


ـ اطمئن لن أبوح بالسر.


أطلقت خصلات شعرها الناعمة ، فنهضت وأسرعت خارجة ، وأنا أشيعها بنظرات تفيض بالود ، وأرادت أمي أن تعود بالحديث إلى مجراه ، وما كادت تفعل ، حتى أطبق أخوتي على الغرفة وهم يهتفون "مبروك.. مبروك"..


وأقبل والدي خلفهم والابتسامة تضيء وجهه الطيب ، قال وهو يجلس على كرسي قرب الباب:


ـ أيها المتآمرون!.. أنت وأمك تتآمران على صنع الأخبار السعيدة ، هل صحيح ما تناقلته وكالات الأنباء؟


قلت وأنا أرمق أختي الواشية كالمتوعد:


ـ لا أعلم في بيتنا سوى وكالة واحدة للأنباء ، ثم نهضت إليها لأمسك بها ، لكنها أفلتت مني ولاذت بأبيها وهي تقول:


ـ أنا أحب السبق الصحفي ، خشيت أن تسبقني أمك إلى إعلان قرارك بالزواج..


ضحك أبي وسأل:


ـ من هي صاحبة الحظ السعيد؟


تبادلت مع أمي نظرة باسمة ، ثم أجبت:


ـ الأمر ما زال فكرة فجة لم تنضج بعد..


ـ أليس لهذه الفكرة بطلة معروفة؟


ـ إنها الدكتورة أحلام زميلتي في المستشفى..


ـ ابنة من؟


ـ والدها رجل الأعمال المعروف عبد الغني الذهبي..


وجم أبي ، وتقلصت ملامحه ، قال وهو يضع إبهامه تحت ذقنه ، ويطوي أصابعه فوقها كالقبضة:


ـ هل فكرت في هذا الأمر جيدا يا بني؟


ـ ما زلت أفكر..


ـ هل تريد رأيي؟..


ـ لا غني لي عن رأيك..


قال والدي بنبرة حاسمة:


ـ هذا زواج لن تكتب له الحياة..


هزتني كلمات أبي بشدة ، فانقبض لها قلبي ، همست متوجسا:


ـ لماذا؟


ـ أنت تعرف.


ـ هذا ما كنت أحدث فيه أمي!.


قالت أمي كالمغضبة:


ـ المال ليس كل شيء ، خذوا الأمر ببساطة ، نريد أن نفرح..


التفت إليها والدي كالساخر ، وقال:


ـ أنت دائما هكذا ، كل شيء عندك ممكن.


ردت عليه أمي وهي تشيح بيدها:


ـ أنت لا تعرف شيئا ، البنت تريده ، وهي مستعدة للحياة معه ، والصبر على ظروفه.


ـ يبقى القرار بيد أبيها..


ـ أبوها لن يقف في وجه رغبتها.


ـ أبوها معروف بجشعه ، وسيظن ابننا طامعا بثروته..


تبادل الجميع نظرات ملؤها الخيبة ، وشعروا نحوي بالإشفاق ، نهض والدي وقال وهو يمضي:


ـ الأمر ليس بهذه السهولة ، فكروا به جيدا.


ولم يلبث أخي الأوسط أن خرج خلفه وهو يقول:


ـ سأعود لأكمل الفيلم ظننت أن الأمر قد نضج على نار هادئة!..


قال أخي الأصغر ، وهو يجلس بجانبي:


ـ لو أنك اخترت عروسا قليلة التكاليف ، لتزوجنا معا في آن واحد ، دون أن نرهق الأسرة بالمصاريف..


ضحكت أختي الوسطى ، وقالت له:


ـ أيها الانتهازي.. دائما تبحث عن الفرص السهلة.


قالت الكبرى وقد أحست بأنها تسرعت في إعلان النبأ:


ـ كنت أظن أن أختي المرتقبة سهلة المنال..


ثم أردفت في دعابة:


ـ قلت لك أكثر من مرة دعني أخطب لك صديقتي ميادة ، فلم ترض ، إنها فتاة كالسكر.


وتسللت أختي الصغيرة ذات السبع سنوات إلى حضن أمها ، وسألتها في براءة ، وكأنها لم تفهم شيئا مما دار:


ـ ماما ، ماما.. هل ستشترين لي ثوبا جديدا في عرس أخي؟


رنوت إلى أختي الصغيرة في حنان ، همست وأنا أهم بالنهوض:


ـ كم هو الشبه كبير بيني وبينك يا صغيرتي!..


كلانا نحلم كالأطفال..

1 comment: