لم أصدق ما رأيت!.. كانت مجزرة حقيقية ضحاياها جميعا من الأطفال..
هرعنا إلى الجرحى الصغار نرمم أجسادهم الممزقة.. نتشبث بأرواحهم البريئة حتى لا تفلت منا ، وتغادرنا إلى العالم الآخر ، تسربت روح الطفل لأول من بين أيدينا بسرعة ، ومضت إلى خالقها تشكو له عالمنا المجنون ، بكت أحلام وهي تسبل جفني الطفل الشهيد فوق عينيه اللتين جال فيهما الرعب والذعر ،
حضرت مجموعة أخرى من الأطباء لتساهم في إنقاذ هذه الكائنات المسكينة ، واجتمع الأهالي في الخارج ينوحون ويولولون ،
وتعالى نحيب الأمهات وهن يتدافعن أمام غرفة العمليات.. يتسقطن الأخبار حول أطفالهن الذين ذهبوا ضحية الطيش والسرعة المجنونة..
ووصل الدكتور مأمون مدير المستشفى قادما من سفر بعيد ، فانضم إلينا على عجل في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه..
توقف قلب طفل آخر عن الخفقان ، وانسلت روحه من بين أيدينا ونخن ننظر في مرارة وعجز ،
لم تحتمل أحلام هذه المناظر المرهقة ، فسقطت مغشيا عليها ، وهي الطبيبة التي ألفت أجواء غرف العمليات ، فالموقف كان مؤثرا صعب الاحتمال ، ولم تلبث أن عادت إلى وعيها بعد أن صفعتها إحدى الممرضات ، فاستجمعت قواها ، وغسلت وجهها ، ثم انضمت إلينا ثانية ، لتتابع أداء واجبها في إنقاذ الجرحى من الأطفال..
ثمة روح ثالثة تتملص من بين أيدينا ، تريد أن تهاجر ، تريد أن تغادر هذا العالم الضيق الذي لم يتسع لأفراحها ،
استنفرنا لمنعها من الرحيل ، استخدمنا الصدمات الكهربائية ، ومنحناها قبلة الحياة ، لكنها رفضت أن تبقى ،
ومضت في عناد ، تلعن عالمنا الذي لم يعد يحترم أرواح الأطفال..
وتراكم التعب والإرهاق في أوصالنا ، وتفاقم الحزن في داخلنا حتى طفح من عيوننا وملامحنا ، وقضينا يوما ضاريا ، ونحن نصارع الموت الذي حاصر الأجسام الصغيرة ، وراح ينهشها ويفترسها جسدا بعد آخر..
وانتصف الليل ، فهدأت المعركة قليلا ، لكنها لم تحسم بعد ، فما زالت بعض الإصابات بالغة الخطورة ، وتحتاج إلى حراسة شديدة..
قرر الدكتور مأمون أن يوزعنا إلى فئتين ، فئة ترابط حول الأطفال الجرحى ، وأخرى تخلد للنوم والراحة ، لأننا قمنا بالعبء الأكبر في غرفة العمليات..
قال هاني:
ـ دعونا نخرج من الباب الخلفي ، فأنا لا أطيق رؤية وجوه الأهالي المنكوبين..
وهمست أحلام بعد أن مضينا خطوات:
ـ لا أصدق ، أرأيتما الذعر في عيون الأطفال؟ أي مجرم هذا الذي كان وراء الحادث؟!..
هتفت في غيظ:
ـ مراهق في العشرين ، فعل فعلته النكراء ، ثم هرب..!
تساءلت أحلام:
ـ كيف استطاع أن يهرب ، وهو يرى الأطفال أمامه يتحولون إلى كومة من الأشلاء؟ ألم تتحرك فيه ذرة من الشهامة ، فينزل ويساهم في إنقاذ الضحايا؟
ومضينا في الممر الطويل نفرغ شحنات الحزن والغضب ، ونتبادل انطباعاتنا الأليمة ، ونحن نسعف الجرحى من الأطفال ، وسمت صوتا ينادينا من الخلف..
صوت أذكر أني سمعته من قبل!.. والتفتنا إلى صاحب الصوت..
قال هاني:
ـ هذا هو الأستاذ سعيد.. لقد جاء ليغطي الحادث بنفسه.
صافحنا الأستاذ سعيد الناشف بحرارة ، وقال في لهفة وقلق:
ـ طمئنوني.. ما هي آخر الأخبار؟..
قلت له:
ـ ثلاثة قتلى ، وإصابتان خطيرتان ، والأطفال العشرة الباقون تتراوح إصاباتهم بين الكسور والرضوض ، لكنهم جميعا يعانون من صدمة نفسية فظيعة أحدثها الرعب الذي اندلع في قلوبهم الغضة ، وهم يواجهون الموت في أبشع صوره..
قال الأستاذ سعيد:
ـ سأفرد لهذا الحادث البشع عددا خاصا يهز الرأي العام ، خبروني بربكم.. كيف حدث هذا؟
قال هاني:
ـ كل ما علمناه أن الأطفال كانوا عائدين إلى بيوتهم في باص المدرسة ، كان الباص يسير ضمن السرعة القانونية ، وفجأة خرجت سيارة مسرعة من شارع فرعي ، واستقرت وسط الباص كالقذيفة ، فانقلب الباص بمن فيه ، وتطايرت أجساد بعضهم من النوافذ ، وارتطم الآخرون بجدران الباص المعدنية ، فأصيبوا برضوض وكسور مختلفة ، واخترق الزجاج المحطم أجساد عدد منهم..
همست وأنا في ذروة الألم:
ـ لقد كانت مجزرة حقيقية يا أستاذ سعيد..
قال الأستاذ سعيد وهو يمضي معنا متثاقلا:
ـ حوادث الطرق في بلادنا تبتلع من الضحايا أكثر مما تبتلع الكوارث والحروب..
علقت أحلام بنبرة قاسية:
ـ لو ذهب هؤلاء الأطفال ضحية حرب أو زلزال لكان الأمر أهون ، لكن أن نقتل أطفالنا بأيدينا ، بطيشنا وغرورنا ، فهذا قمة الجنون والإجرام!..
لفتت لهجة أحلام المنفعلة انتباه الأستاذ سعيد ، فقال وهو يرمقها باهتمام:
ـ أنا أعرف الدكتور هاني ، والدكتور صلاح ، لكني لم أتشرف بمعرفتك بعد..
بادرت ، فعرفت كل منهما على الآخر ، فلاحظت عليهما تغيرا ووجوما مثيرا ، تساءلت في حيرة:
ـ أتعرفان بعضكما من قبل؟
همس الأستاذ سعيد وهو يبتسم في غموض:
ـ إذا كانت الدكتورة أحلام ابنة رجل الأعمال المشهور عبد الغني الذهبي ، فهي تعرفني بلا شك!..
سألته أحلام بنبرة حائرة:
ـ لماذا توقعت مباشرة أني ابنة عبد الغني الذهبي؟
أجاب كالواثق:
ـ كنت أعرف أن له ابنة وحيدة تدرس الطب.
قلت في محاولة لفض الغموض:
ـ أنت تعرف أباها إذن!
هز الأستاذ سعيد رأسه مؤكدا ، ثم همس وهو يسدد إلى أحلام نظرة غامضة:
ـ صديق قديم..
أحرجت نظرة الأستاذ سعيد أحلام ، فرمشت في ضيق ، واستأذنتنا في الانسحاب متعللة بالتعب ، وانسحب هاني خلفها مبديا العذر نفسه ، سألني الأستاذ سعيد ، وهو يشيع أحلام بنظرة شاردة:
ـ كيف تجدها؟
ـ من؟
ـ الدكتورة أحلام..
ـ إنها فتاة طيبة ومهذبة ، وذات شخصية جادة..
رفع حاجبيه دهشة ، وقال:
ـ أمتأكد أنت؟
ـ جدا..
ـ شوكة خلفت وردة!..
ـ ماذا تقصد؟
قال متهربا من الإجابة:
ـ دعك من قصدي ، وأخبري.. ما هي أخبار طفلتك اللقيطة؟
ـ النتائج سلبية..
ـ كما توقعت..
ـ لم تقل لي..
ـ ماذا؟..
ـ ما رأيك بوالد أحلام؟..
ابتسم في دهاء ، وسأل:
ـ هل تهمك كثيرا.
ـ مجرد فضول..
ـ لماذا لا تعمل معي؟
ـ أين؟
ـ في الصحافة طبعا!
ابتسمت رغما عني..
ـ أنا؟
ـ سأجعل منك صحفيا مشهورا.
ـ ولكن..
ـ لست أول من يقدم على هذه المغامرة.
ـ لماذا أقدم عليها؟
ـ لأنك تملك أهم مقومات الصحفي الناجح: فضول المحقق ، وحماس المؤمن..
قلت وأنا أنوء تحت أثقال الهم والنعس والإرهاق:
ـ أستاذ سعيد.. كنت أتمنى لو كان حديثا في غير هذه المناسبة ، لكني مضطر للانسحاب الآن ، فأمامي غدا عمل طويل..
ربت الأستاذ سعيد على كتفي وقال:
ـ فكر بالأمر ، تصبح على خير..
عندما وضعت رأسي على الوسادة ، تذكرت شيئا.. لقد استطاع الأستاذ سعيد بدهائه أن يتهرب من سؤالي عن رأيه بوالد أحلام!..
ماذا يعرف عنه يا ترى؟..
هرعنا إلى الجرحى الصغار نرمم أجسادهم الممزقة.. نتشبث بأرواحهم البريئة حتى لا تفلت منا ، وتغادرنا إلى العالم الآخر ، تسربت روح الطفل لأول من بين أيدينا بسرعة ، ومضت إلى خالقها تشكو له عالمنا المجنون ، بكت أحلام وهي تسبل جفني الطفل الشهيد فوق عينيه اللتين جال فيهما الرعب والذعر ،
حضرت مجموعة أخرى من الأطباء لتساهم في إنقاذ هذه الكائنات المسكينة ، واجتمع الأهالي في الخارج ينوحون ويولولون ،
وتعالى نحيب الأمهات وهن يتدافعن أمام غرفة العمليات.. يتسقطن الأخبار حول أطفالهن الذين ذهبوا ضحية الطيش والسرعة المجنونة..
ووصل الدكتور مأمون مدير المستشفى قادما من سفر بعيد ، فانضم إلينا على عجل في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه..
توقف قلب طفل آخر عن الخفقان ، وانسلت روحه من بين أيدينا ونخن ننظر في مرارة وعجز ،
لم تحتمل أحلام هذه المناظر المرهقة ، فسقطت مغشيا عليها ، وهي الطبيبة التي ألفت أجواء غرف العمليات ، فالموقف كان مؤثرا صعب الاحتمال ، ولم تلبث أن عادت إلى وعيها بعد أن صفعتها إحدى الممرضات ، فاستجمعت قواها ، وغسلت وجهها ، ثم انضمت إلينا ثانية ، لتتابع أداء واجبها في إنقاذ الجرحى من الأطفال..
ثمة روح ثالثة تتملص من بين أيدينا ، تريد أن تهاجر ، تريد أن تغادر هذا العالم الضيق الذي لم يتسع لأفراحها ،
استنفرنا لمنعها من الرحيل ، استخدمنا الصدمات الكهربائية ، ومنحناها قبلة الحياة ، لكنها رفضت أن تبقى ،
ومضت في عناد ، تلعن عالمنا الذي لم يعد يحترم أرواح الأطفال..
وتراكم التعب والإرهاق في أوصالنا ، وتفاقم الحزن في داخلنا حتى طفح من عيوننا وملامحنا ، وقضينا يوما ضاريا ، ونحن نصارع الموت الذي حاصر الأجسام الصغيرة ، وراح ينهشها ويفترسها جسدا بعد آخر..
وانتصف الليل ، فهدأت المعركة قليلا ، لكنها لم تحسم بعد ، فما زالت بعض الإصابات بالغة الخطورة ، وتحتاج إلى حراسة شديدة..
قرر الدكتور مأمون أن يوزعنا إلى فئتين ، فئة ترابط حول الأطفال الجرحى ، وأخرى تخلد للنوم والراحة ، لأننا قمنا بالعبء الأكبر في غرفة العمليات..
قال هاني:
ـ دعونا نخرج من الباب الخلفي ، فأنا لا أطيق رؤية وجوه الأهالي المنكوبين..
وهمست أحلام بعد أن مضينا خطوات:
ـ لا أصدق ، أرأيتما الذعر في عيون الأطفال؟ أي مجرم هذا الذي كان وراء الحادث؟!..
هتفت في غيظ:
ـ مراهق في العشرين ، فعل فعلته النكراء ، ثم هرب..!
تساءلت أحلام:
ـ كيف استطاع أن يهرب ، وهو يرى الأطفال أمامه يتحولون إلى كومة من الأشلاء؟ ألم تتحرك فيه ذرة من الشهامة ، فينزل ويساهم في إنقاذ الضحايا؟
ومضينا في الممر الطويل نفرغ شحنات الحزن والغضب ، ونتبادل انطباعاتنا الأليمة ، ونحن نسعف الجرحى من الأطفال ، وسمت صوتا ينادينا من الخلف..
صوت أذكر أني سمعته من قبل!.. والتفتنا إلى صاحب الصوت..
قال هاني:
ـ هذا هو الأستاذ سعيد.. لقد جاء ليغطي الحادث بنفسه.
صافحنا الأستاذ سعيد الناشف بحرارة ، وقال في لهفة وقلق:
ـ طمئنوني.. ما هي آخر الأخبار؟..
قلت له:
ـ ثلاثة قتلى ، وإصابتان خطيرتان ، والأطفال العشرة الباقون تتراوح إصاباتهم بين الكسور والرضوض ، لكنهم جميعا يعانون من صدمة نفسية فظيعة أحدثها الرعب الذي اندلع في قلوبهم الغضة ، وهم يواجهون الموت في أبشع صوره..
قال الأستاذ سعيد:
ـ سأفرد لهذا الحادث البشع عددا خاصا يهز الرأي العام ، خبروني بربكم.. كيف حدث هذا؟
قال هاني:
ـ كل ما علمناه أن الأطفال كانوا عائدين إلى بيوتهم في باص المدرسة ، كان الباص يسير ضمن السرعة القانونية ، وفجأة خرجت سيارة مسرعة من شارع فرعي ، واستقرت وسط الباص كالقذيفة ، فانقلب الباص بمن فيه ، وتطايرت أجساد بعضهم من النوافذ ، وارتطم الآخرون بجدران الباص المعدنية ، فأصيبوا برضوض وكسور مختلفة ، واخترق الزجاج المحطم أجساد عدد منهم..
همست وأنا في ذروة الألم:
ـ لقد كانت مجزرة حقيقية يا أستاذ سعيد..
قال الأستاذ سعيد وهو يمضي معنا متثاقلا:
ـ حوادث الطرق في بلادنا تبتلع من الضحايا أكثر مما تبتلع الكوارث والحروب..
علقت أحلام بنبرة قاسية:
ـ لو ذهب هؤلاء الأطفال ضحية حرب أو زلزال لكان الأمر أهون ، لكن أن نقتل أطفالنا بأيدينا ، بطيشنا وغرورنا ، فهذا قمة الجنون والإجرام!..
لفتت لهجة أحلام المنفعلة انتباه الأستاذ سعيد ، فقال وهو يرمقها باهتمام:
ـ أنا أعرف الدكتور هاني ، والدكتور صلاح ، لكني لم أتشرف بمعرفتك بعد..
بادرت ، فعرفت كل منهما على الآخر ، فلاحظت عليهما تغيرا ووجوما مثيرا ، تساءلت في حيرة:
ـ أتعرفان بعضكما من قبل؟
همس الأستاذ سعيد وهو يبتسم في غموض:
ـ إذا كانت الدكتورة أحلام ابنة رجل الأعمال المشهور عبد الغني الذهبي ، فهي تعرفني بلا شك!..
سألته أحلام بنبرة حائرة:
ـ لماذا توقعت مباشرة أني ابنة عبد الغني الذهبي؟
أجاب كالواثق:
ـ كنت أعرف أن له ابنة وحيدة تدرس الطب.
قلت في محاولة لفض الغموض:
ـ أنت تعرف أباها إذن!
هز الأستاذ سعيد رأسه مؤكدا ، ثم همس وهو يسدد إلى أحلام نظرة غامضة:
ـ صديق قديم..
أحرجت نظرة الأستاذ سعيد أحلام ، فرمشت في ضيق ، واستأذنتنا في الانسحاب متعللة بالتعب ، وانسحب هاني خلفها مبديا العذر نفسه ، سألني الأستاذ سعيد ، وهو يشيع أحلام بنظرة شاردة:
ـ كيف تجدها؟
ـ من؟
ـ الدكتورة أحلام..
ـ إنها فتاة طيبة ومهذبة ، وذات شخصية جادة..
رفع حاجبيه دهشة ، وقال:
ـ أمتأكد أنت؟
ـ جدا..
ـ شوكة خلفت وردة!..
ـ ماذا تقصد؟
قال متهربا من الإجابة:
ـ دعك من قصدي ، وأخبري.. ما هي أخبار طفلتك اللقيطة؟
ـ النتائج سلبية..
ـ كما توقعت..
ـ لم تقل لي..
ـ ماذا؟..
ـ ما رأيك بوالد أحلام؟..
ابتسم في دهاء ، وسأل:
ـ هل تهمك كثيرا.
ـ مجرد فضول..
ـ لماذا لا تعمل معي؟
ـ أين؟
ـ في الصحافة طبعا!
ابتسمت رغما عني..
ـ أنا؟
ـ سأجعل منك صحفيا مشهورا.
ـ ولكن..
ـ لست أول من يقدم على هذه المغامرة.
ـ لماذا أقدم عليها؟
ـ لأنك تملك أهم مقومات الصحفي الناجح: فضول المحقق ، وحماس المؤمن..
قلت وأنا أنوء تحت أثقال الهم والنعس والإرهاق:
ـ أستاذ سعيد.. كنت أتمنى لو كان حديثا في غير هذه المناسبة ، لكني مضطر للانسحاب الآن ، فأمامي غدا عمل طويل..
ربت الأستاذ سعيد على كتفي وقال:
ـ فكر بالأمر ، تصبح على خير..
عندما وضعت رأسي على الوسادة ، تذكرت شيئا.. لقد استطاع الأستاذ سعيد بدهائه أن يتهرب من سؤالي عن رأيه بوالد أحلام!..
ماذا يعرف عنه يا ترى؟..
No comments:
Post a Comment