Sunday, March 7, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الفصل الرابع عشر

لم أصدق ما رأيت!.. كانت مجزرة حقيقية ضحاياها جميعا من الأطفال..



هرعنا إلى الجرحى الصغار نرمم أجسادهم الممزقة.. نتشبث بأرواحهم البريئة حتى لا تفلت منا ، وتغادرنا إلى العالم الآخر ، تسربت روح الطفل لأول من بين أيدينا بسرعة ، ومضت إلى خالقها تشكو له عالمنا المجنون ، بكت أحلام وهي تسبل جفني الطفل الشهيد فوق عينيه اللتين جال فيهما الرعب والذعر ،


حضرت مجموعة أخرى من الأطباء لتساهم في إنقاذ هذه الكائنات المسكينة ، واجتمع الأهالي في الخارج ينوحون ويولولون ،


وتعالى نحيب الأمهات وهن يتدافعن أمام غرفة العمليات.. يتسقطن الأخبار حول أطفالهن الذين ذهبوا ضحية الطيش والسرعة المجنونة..


ووصل الدكتور مأمون مدير المستشفى قادما من سفر بعيد ، فانضم إلينا على عجل في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه..


توقف قلب طفل آخر عن الخفقان ، وانسلت روحه من بين أيدينا ونخن ننظر في مرارة وعجز ،


لم تحتمل أحلام هذه المناظر المرهقة ، فسقطت مغشيا عليها ، وهي الطبيبة التي ألفت أجواء غرف العمليات ، فالموقف كان مؤثرا صعب الاحتمال ، ولم تلبث أن عادت إلى وعيها بعد أن صفعتها إحدى الممرضات ، فاستجمعت قواها ، وغسلت وجهها ، ثم انضمت إلينا ثانية ، لتتابع أداء واجبها في إنقاذ الجرحى من الأطفال..


ثمة روح ثالثة تتملص من بين أيدينا ، تريد أن تهاجر ، تريد أن تغادر هذا العالم الضيق الذي لم يتسع لأفراحها ،


استنفرنا لمنعها من الرحيل ، استخدمنا الصدمات الكهربائية ، ومنحناها قبلة الحياة ، لكنها رفضت أن تبقى ،


ومضت في عناد ، تلعن عالمنا الذي لم يعد يحترم أرواح الأطفال..


وتراكم التعب والإرهاق في أوصالنا ، وتفاقم الحزن في داخلنا حتى طفح من عيوننا وملامحنا ، وقضينا يوما ضاريا ، ونحن نصارع الموت الذي حاصر الأجسام الصغيرة ، وراح ينهشها ويفترسها جسدا بعد آخر..


وانتصف الليل ، فهدأت المعركة قليلا ، لكنها لم تحسم بعد ، فما زالت بعض الإصابات بالغة الخطورة ، وتحتاج إلى حراسة شديدة..


قرر الدكتور مأمون أن يوزعنا إلى فئتين ، فئة ترابط حول الأطفال الجرحى ، وأخرى تخلد للنوم والراحة ، لأننا قمنا بالعبء الأكبر في غرفة العمليات..


قال هاني:


ـ دعونا نخرج من الباب الخلفي ، فأنا لا أطيق رؤية وجوه الأهالي المنكوبين..


وهمست أحلام بعد أن مضينا خطوات:


ـ لا أصدق ، أرأيتما الذعر في عيون الأطفال؟ أي مجرم هذا الذي كان وراء الحادث؟!..


هتفت في غيظ:


ـ مراهق في العشرين ، فعل فعلته النكراء ، ثم هرب..!


تساءلت أحلام:


ـ كيف استطاع أن يهرب ، وهو يرى الأطفال أمامه يتحولون إلى كومة من الأشلاء؟ ألم تتحرك فيه ذرة من الشهامة ، فينزل ويساهم في إنقاذ الضحايا؟


ومضينا في الممر الطويل نفرغ شحنات الحزن والغضب ، ونتبادل انطباعاتنا الأليمة ، ونحن نسعف الجرحى من الأطفال ، وسمت صوتا ينادينا من الخلف..


صوت أذكر أني سمعته من قبل!.. والتفتنا إلى صاحب الصوت..


قال هاني:


ـ هذا هو الأستاذ سعيد.. لقد جاء ليغطي الحادث بنفسه.


صافحنا الأستاذ سعيد الناشف بحرارة ، وقال في لهفة وقلق:


ـ طمئنوني.. ما هي آخر الأخبار؟..


قلت له:


ـ ثلاثة قتلى ، وإصابتان خطيرتان ، والأطفال العشرة الباقون تتراوح إصاباتهم بين الكسور والرضوض ، لكنهم جميعا يعانون من صدمة نفسية فظيعة أحدثها الرعب الذي اندلع في قلوبهم الغضة ، وهم يواجهون الموت في أبشع صوره..


قال الأستاذ سعيد:


ـ سأفرد لهذا الحادث البشع عددا خاصا يهز الرأي العام ، خبروني بربكم.. كيف حدث هذا؟


قال هاني:


ـ كل ما علمناه أن الأطفال كانوا عائدين إلى بيوتهم في باص المدرسة ، كان الباص يسير ضمن السرعة القانونية ، وفجأة خرجت سيارة مسرعة من شارع فرعي ، واستقرت وسط الباص كالقذيفة ، فانقلب الباص بمن فيه ، وتطايرت أجساد بعضهم من النوافذ ، وارتطم الآخرون بجدران الباص المعدنية ، فأصيبوا برضوض وكسور مختلفة ، واخترق الزجاج المحطم أجساد عدد منهم..


همست وأنا في ذروة الألم:


ـ لقد كانت مجزرة حقيقية يا أستاذ سعيد..


قال الأستاذ سعيد وهو يمضي معنا متثاقلا:


ـ حوادث الطرق في بلادنا تبتلع من الضحايا أكثر مما تبتلع الكوارث والحروب..


علقت أحلام بنبرة قاسية:


ـ لو ذهب هؤلاء الأطفال ضحية حرب أو زلزال لكان الأمر أهون ، لكن أن نقتل أطفالنا بأيدينا ، بطيشنا وغرورنا ، فهذا قمة الجنون والإجرام!..


لفتت لهجة أحلام المنفعلة انتباه الأستاذ سعيد ، فقال وهو يرمقها باهتمام:


ـ أنا أعرف الدكتور هاني ، والدكتور صلاح ، لكني لم أتشرف بمعرفتك بعد..


بادرت ، فعرفت كل منهما على الآخر ، فلاحظت عليهما تغيرا ووجوما مثيرا ، تساءلت في حيرة:


ـ أتعرفان بعضكما من قبل؟


همس الأستاذ سعيد وهو يبتسم في غموض:


ـ إذا كانت الدكتورة أحلام ابنة رجل الأعمال المشهور عبد الغني الذهبي ، فهي تعرفني بلا شك!..


سألته أحلام بنبرة حائرة:


ـ لماذا توقعت مباشرة أني ابنة عبد الغني الذهبي؟


أجاب كالواثق:


ـ كنت أعرف أن له ابنة وحيدة تدرس الطب.


قلت في محاولة لفض الغموض:


ـ أنت تعرف أباها إذن!


هز الأستاذ سعيد رأسه مؤكدا ، ثم همس وهو يسدد إلى أحلام نظرة غامضة:


ـ صديق قديم..


أحرجت نظرة الأستاذ سعيد أحلام ، فرمشت في ضيق ، واستأذنتنا في الانسحاب متعللة بالتعب ، وانسحب هاني خلفها مبديا العذر نفسه ، سألني الأستاذ سعيد ، وهو يشيع أحلام بنظرة شاردة:


ـ كيف تجدها؟


ـ من؟


ـ الدكتورة أحلام..


ـ إنها فتاة طيبة ومهذبة ، وذات شخصية جادة..


رفع حاجبيه دهشة ، وقال:


ـ أمتأكد أنت؟


ـ جدا..


ـ شوكة خلفت وردة!..


ـ ماذا تقصد؟


قال متهربا من الإجابة:


ـ دعك من قصدي ، وأخبري.. ما هي أخبار طفلتك اللقيطة؟


ـ النتائج سلبية..


ـ كما توقعت..


ـ لم تقل لي..


ـ ماذا؟..


ـ ما رأيك بوالد أحلام؟..


ابتسم في دهاء ، وسأل:


ـ هل تهمك كثيرا.


ـ مجرد فضول..


ـ لماذا لا تعمل معي؟


ـ أين؟


ـ في الصحافة طبعا!


ابتسمت رغما عني..


ـ أنا؟


ـ سأجعل منك صحفيا مشهورا.


ـ ولكن..


ـ لست أول من يقدم على هذه المغامرة.


ـ لماذا أقدم عليها؟


ـ لأنك تملك أهم مقومات الصحفي الناجح: فضول المحقق ، وحماس المؤمن..


قلت وأنا أنوء تحت أثقال الهم والنعس والإرهاق:


ـ أستاذ سعيد.. كنت أتمنى لو كان حديثا في غير هذه المناسبة ، لكني مضطر للانسحاب الآن ، فأمامي غدا عمل طويل..


ربت الأستاذ سعيد على كتفي وقال:


ـ فكر بالأمر ، تصبح على خير..


عندما وضعت رأسي على الوسادة ، تذكرت شيئا.. لقد استطاع الأستاذ سعيد بدهائه أن يتهرب من سؤالي عن رأيه بوالد أحلام!..


ماذا يعرف عنه يا ترى؟..


No comments:

Post a Comment