Wednesday, March 10, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الفصل الثامن عشر

انتهت إجازتي القصيرة ، فعدت إلى المستشفى وقد تخففت من بعض الغم الذي أصابني به غياب أحلام..


وجدت هاني يتجول بين المرضى ، ويتفقد أحوالهم ، فلما رآني ، أقبل نحوي ، وهو يبتسم في مكر ، قال كالشامت:


ـ أنا سعيد لأنك لم تحظ بإجازة أطول..


ابتسمت لدعابته ، وسألته:


ـ هل هناك حالات جديدة؟


أجاب وهو يمضي معي في الممر الطويل:


ـ الأمن مستتب في أرجاء المستشفى ، وعزرائيل في هدنة مع البشر ، في هذه النقطة من العالم على الأقل..


ـ يا لك من متشائم! ألم تفكر إلا في عزارئيل؟..


ـ الموت حق يا عزيزي..


ـ لن تحزر أين كنت منذ قليل!.


رمقني هاني برهة ثم قال:


ـ لن تصل إلى المريخ في ثلاث ساعات طبعا ، أين كنت؟


ـ في دار الحنان للأيتام..


هتف هاني في دهشة:


ـ دار الحنان!.. هل تقصد..


ـ نعم ، كنت في زيارة الطفلة اللقيطة..


ـ أمازلت تذكرها؟..


ـ خطرت على بالي فجأة ، فذهبت لزيارتها..


قال هاني وهو يهز رأسه في حيرة:


ـ أحيانا لا أستطيع فهم تصرفاتك!.. أتيت هذا الصباح فرحا ، وخرجت غاضبا ، وها أنت تعود لتقول لي بأنك كنت في زيارة الطفلة اللقيطة. وراءك قصة خطيرة يا فتى!.. أتمنى لو أعرفها..


ثم أردف هامسا ، وهو يميل على أذني:


ـ لعلك والد الطفلة اللقيطة! اعترف ، فسرك محفوظ..


لكزته في صدره وقلت:
ـ كف عن هذرك ، وتكلم بجد..


تضاحك وقال:
ـ في الحقيقة أصبحت أشك فيك.. ثمة قاعدة علمية يتبعها المحققون لمعرفة الجاني ، تكاد تنطبق عليك..


ـ وما هذه القاعدة أيها المحقق الأريب؟


قال هاني في تردد قبل أن ينفجر ضاحكا:


ـ المجرم يحوم دائما حول جريمته.




تهيأت للانقضاض عليه للي ذراعه وإجباره على التوقف عن هرائه ، لكنه أحس بنيتي فلاذ بالهرب ، قال وهو يتراجع أمامي بخطوات حذرة:




ـ إياك أن تلجأ إلى العنف ، كن ديموقراطيا وتقبل النقد بروح رياضية. زيارتك للطفلة تحمل أكثر من تفسير!.


ضحكت وسألته:




ـ لماذا ملت إلى هذا التفسير السيء؟.




توقف ، وقال ، وقد آنس مني الأمان:






ـ في زمان كهذا لا ينفع الظن الحسن ، حتى تفهم الناس يجب أن تسيء بهم الظن.




تنهدت وقلت بنبرة تميل إلى الجد:


ـ هاني.. لاحظت اليوم في الدار شيئا غريبا لم أستطع تفسيره!.




توقف هاني فجأة وقال:




ـ إياك أن تكون قد انشغلت بلغز طفلة جديدة!.




ـ لا ، لا ليس كذلك.. الموضوع يتعلق بالمشرفة التي تتولى رعاية بارعة.




ـ بارعة!.. من بارعة؟..




ـ إنها الطفلة اللقيطة ، سموها بارعة.




ـ وما بال المشرفة؟.




ـ لقد اضطربت كثيرا عندما عرفت أني أتيت للاطمئنان على الطفلة ، كان في عينيها قلق مبهم ، شعرت وكأنها تتهرب مني ، كأنها لا تريد أن أراها أو أحادثها..






سألني متخابثا:






ـ هال هي جميلة؟






هتفت مغتاظا:




ـ كف عن هذرك يا هاني ، لا يستطيع الإنسان أن يبحث معك في أمر!






ـ أنا لا أمزح ، لعلها كانت جميلة فأربكتها نظراتك..




ثم قال وهو يغمز بعينه اليمنى ويهز رأسه كالنشوان:






ـ لابد أنها جميلة ، أراهن على ذلك.




ـ لا أنكر أنها جميلة ورقيقة ، لكني مؤدب أكثر منك ، ولا أحب محاصرة الفتيات الجميلات بنظراتي مثلك.


ضحك هاني وقال:




ـ ما الذي يجعل إنسانه لا تعرفها ولا تعرفك تشعر بالاضطراب لرؤيتك وتتهرب منك؟!..




ثم أردف وقد ظن أنه أوقع بي بسؤاله:




ـ أجب دون إبطاء..


ابتسمت وقلت:


ـ ليس الأمر هكذا تماما ، افهمني جيدا يا هاني ، أعتقد أن هذه الفتاة تعرفني ، أذكر أنا التقينا من قبل!..






قال هاني في دعابة:






ـ مبلغ علمي أنك لا تقابل النساء إلا في هذا المستشفى ، إلا أن تكون قد..




لم أدع هاني يكمل ، فقد أيقظت كلماته ذاكرتي ، هتفت وأنا أمسك بهاني من كتفيه:




ـ هاني ، إنها هي.




تساءل في حيرة:




ـ من هي؟


أعتقد أني قد أمسكت بطرف خيط.




ـ عم تتحدث؟


قلت وأنا أمضي بخطوات متسارعة:


ـ إن صدق ظني فهذه الفتاة لها علاقة بالطفلة اللقيطة ، يجب أن أتحقق من ذلك.




توقف هاني ، وقال حانقا:
ـ والدوام؟


ـ لن أتأخر.


ـ صلاح.. أنت مجنون.




ـ حتى يثبت العكس.




أردف هاني بصوت أعلى:




ـ أنت مجنون.. مجنون..






لم أحفل بكلمات هاني . كان همي الوحيد أن أصل إلى دار الحنان للأيتام لمعرفة سر الآنسة نورا.. إنها هي بلا شك ، لقد تذكرتها تماما ، هي ذاتها المرأة الشابة التي زارتني في المستشفى بعيد قدوم الطفلة اللقيطة بدقائق, نظارتها يوم ذاك لم ترتفع عن الطفلة ، تزامن وصولها إلى المستشفى مع وصول الطفلة تقريبا ، والجرح البسيط الذي تذرعت به للحضور إلى المستشفى قبل شروق الشمس ، وأنداء الدمع التي كانت ما تزال عالقة بعينيها الحزينتين ، ثم الاضطراب الواضح الذي اعتراها عندما رأتني في دار الأيتام ، والتأثر الذي فاض بها عندما لاحظت حنوّي وإشفاقي على الطفلة.. كل هذه الملاحظات تحيط الآنسة نورا بدائرة قوية من الشك!!.


وانطلقت بسيارتي أطوي المسافات إلى دار الحنان ، لأضع حد للغز الطفلة اللقيطة ، وأنهى دوامة الفضول الجارف الذي استغرق وقتي وتفكيري ، ثمة سؤال داهمني وأنا في ذروة الاندفاع.. افرض أنها هي ، ماذا ستفعل؟ ماذا ستستفيد من مواجهتها بالحقيقة؟ وإذا أنكرت.. كيف ستدفعها إلى الاعتراف؟ رفعت قدمي عن دعسة البنزين ، وتركت السيارة تتهادى على الطريق ، شعرت فجأة بأني أعبث ، أمارس لونا من المراهقة ، أحشر نفسي في أمور شائكة ليست من شأني..
وخطرت لي فكرة..
لماذا لا أتجه إلى الشرطة ، وأضع شكوكي بين يديها ، وأترك لها مسؤولية معالجة هذا الأمر بما تملكه من وسائل وسلطات؟..
وسرعان ما تهاوت هذه الفكرة أمام مبرر قوي ومقنع.. ماذا لو كانت شكوكي مجرد أوهام؟.. في هذه الحالة سأنسب للآنسة نورا إساءة بالغة تمس سمعتها وكرامتها ، فالشبهة في مجتمعنا أضحت إدانة ، والناس يبحثون عن قصة للثرثرة ، وليس من العدل أن أعرض سمعة هذه الإنسانة للخطر قبل أن أتأكد من حقيقتها ، وترددت طويلا ، وكدت أدور بسيارتي باتجاه العودة ، ولكن طيف الطفلة اللقيطة لمع في خيالي فجأة ، تراءت لي وهي تمد يدها إليَّ في توسل ، والدموع تغرق وجهها الباكي الحزين ، ترجوني أن أنقذها من الشقاء الذي ينتطرها ، تسألني أن أصلها بجذورها المفقودة ، فلا أقسى من أن يتفتح وعي هذه الطفلة البريئة ، لتجد نفسها بلا جذور!..


واخترت طريقي هذه المرة...

No comments:

Post a Comment