Wednesday, March 10, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - التاسع عشر

وصلت إلى دار الحنان للأيتام ، واندفعت إلى الداخل بخطوات سريعة ، لأواجه الآنسة نورا بشكوكي ، وأفجر الاعتراف في فمها المغلق..




صادفت العم محمود في طريقي فنظر إلي في دهشة ، ورحب بي ترحيبا باردا لا يخلو من الدهشة!.. منذ قليل كنت معه ، فماذا عدت؟ سؤال منطقي لا ألومه عليه ، جاملته بتحية سريعة ، وانعطفت إلى ممر جانبي حيث تقع القاعة الثالثة التي تشرف عليها نورا ، دخلت القاعة ، فلم أجدها ، وجدت مشرفة أخرى!..


أدركت أن الآنسة نورا ما تزال في غرفة المديرة ، الحديث الغامض الذي دفن بالصمت عندما دخلت على المديرة آخر مرة ، أوحى لي بأن المديرة قريبة من نورا ومطلعة على أسرارها..


طرقت باب المديرة ودخلت ، لا يوجد في الغرفة سوى المديرة!.. حدجتني المديرة بنظرة تفيض بالدهشة والغضب ، سألتها دون مقدمات:


ـ أين أجد الآنسة نورا؟


ـ ماذا تريد منها؟


ـ موضوع خاص..


قالت بنبرة فيها جد وصرامة:


ـ دكتور.. أرجو أن تلاحظ بأن هذه مؤسسة رسمية ، والتردد عليها دون مبررات واضحة شيء غير مستحب!.


صدمتني المديرة بكلماتها ، ووقفت حائرا لكن فضولي دفعني للمغامرة..


ـ سيدتي إني أتفهم كل ما تقولين ، لكني مصر على مقابلة الآنسة نورا..


ـ الآنسة نورا مجازة.


ـ مجازة؟!.. متى تعود؟.


ـ قد لا تعود..


ـ لكنك قلت بأنها مجازة!


ـ هي مجازة لدراسة إمكانية استمرارها في الدار أو عدمه.


ـ لماذا؟..


نفذ صبر المديرة ، قالت وهي ترمقني بنظرة قاسية:


ـ لديها ظروفها.. هل من خدمة أخرى؟..


غادرت غرفة المديرة مهزوما ، أكابد شعورا مزعجا بالخيبة والإخفاق ، هل أصل إلى طرف الخيط ثم يضيع مني؟.. لا أستطيع التسليم بهذه النتيجة!.. وجدت العم محمود جالسا أمام الباب يتفحصني بنظرة متطفلة تريد أن تفهم سر تصرفاتي..


"آه.. العم محمود يمكن أن يساعدني"..


هذا ما خطر لي ، وأنا أتجه نحوه ، قلت له وأنا أقف أمامه كالحائر:


ـ عم محمود.. أريد أن أقابل الآنسة نورا ، كيف السبيل إلى ذلك؟


أجاب العم محمود بلهجة صادقة:


ـ الآنسة نورا غادرت الدار منذ ساعة تقريبا ، بعد خروجك بقليل.


ـ هل تعرف عنوانها؟


ـ لا أحد يعرف عنوانها ، إنها مشرفة جديدة ، ولا نعرف الكثير عن حياتها خارج الملجا.


هذه معلومة جديدة!. إذا كانت نورا حديثة العهد بالدار ، فلماذا تفكر في ترك العمل. هل أكون أنا السبب في خشية نورا من الاستمرار؟..


أردت أن أكشف بعض الغموض الذي بدأ يزداد ، سألت العم محمود وأنا أجلس بجانبه:


ـ هل هي قريبة المديرة؟


ـ لا.. ليست قريبتها.. لكن المديرة تعاملها معاملة خاصة.


ـ لماذا؟!.


قال العم محمود وهو يبدي جهله ببواطن الأمور:


ـ كل ما أعرفه أن الآنسة نورا جاءتنا منذ أسابيع ، وطلبت مني أن أدلها على مكتب المديرة ، ثم دخلت عليها وجلست معها قرابة نصف ساعة ، نادتني المديرة بعدها ، وطلبت مني أن أدل الآنسة نورا على القاعة الثالثة ، لتستلم فيها عملها كمشرفة متطوعة.


أحسست أن المديرة تخفي أمورا دقيقة ، وتصدني عن بوابة الحقيقة بقسوة..


ضربت فخذي بكفي ، والغيظ يأكل صدري ، قلت بنبرة قهر:


ـ مديرتكم هذه قاسية وشديدة!..


قال العم محمود:


ـ هي شديدة كما تقول ، لكنها طيبة جدا.. أطيب امرأة شاهدتها في حياتي..


هتفت حانقا:


ـ لكنها لا تهضمني.. تضطهدني.. تعاملني بقسوة!.


ـ أنت مخطئ يا دكتور ، السيدة المديرة تحترمك جدا.


فاجأني بهذا القول! كيف تسنى للعم محمود أن يلاحظ هذا الاحترام ويستنتجه ، ومعرفتي بمديرته لا يتجاوز عمرها ساعات قليلة؟!..


ظننت أن العم محمود من النوع الطيب الذي يأخذ على عاتقه تبديد الشكوك بين الناس ، والتقريب بين النماذج المتنافرة ، نظرت إليه في دهشة ، لكنه أمعن في التأكيد ، وقال:


ـ بعد أن خرجت من هنا قبل ساعة تقريبا ، طلبت مني المديرة أن أحضر فنجاني قهوة ، لها وللآنسة نورا ، وعندما دخلت عليهما بالقهوة ، سمعت المديرة تقول للآنسة نورا:


"هذا الدكتور إنسان نبيل فعلا ، كيف تخطر له طفلة كبارعة دون أن تمت له بقرابة أو صلة؟."


تساءلت في دهشة ، وأنا لا أكاد أصدق:


ـ أهي قالت ذلك حقا يا عم محمود؟!.


رمقني العم محمود في عتاب ، وقال:


ـ سامحك الله.. هل تعتقد بأني أخترع كلاما من عقلي؟


ـ عفوا.. لم أقصد.


قاطعني وتابع يروي:


ـ ردت الآنسة نورا على المديرة قائلة: "لأول مرة في حياتي أصدق بأن هناك رجلا طيبا في هذا العالم!".


تساءلت في حيرة:


ـ لماذا تظن الآنسة نورا بأني أول رجل طيب تصادفه في حياتها؟!..


ضحك العم محمود وقال:


ـ هي هكذا.. تكره الرجال وتحقد عليهم ، ولولا أني في سن والدها لم نجوت من معاملتها الفظة التي تعامل بها الرجال!.


أطرقت مستسلما لتيار من الفكر ، فانتهز العم محمود فرصة صمتي ، وغاب قليلا ثم عاد يحمل لي فنجانا من القهوة ، قال وهو يصل ما انقطع من حديثه:


ـ اطمئن يا دكتور.. المديرة طيبة جدا والآنسة نورا طيبة أيضا ، لكنها مسكينة.. لقد قابلت في هذه الدار مشرفات كثيرات ، فلم أجد فيهن من هي أكثر عطفا وحنانا على هؤلاء الأيتام.. إنها بنت رقيقة ، دمعتها غلابة تبكي لأبسط الأمور ـ كما لاحظتها اليوم ـ وهي تقضي وقتها في رعاية الأطفال ، ترعاهم وتهتم بهم وكأنهم أبناء رحمها ، وتحنو عليهم كأم رؤوم..


معلومات العم محمود قدمت لي أجزاء مهمة من الحقيقة ، ثمة بعض المعالم الضائعة التي تنقصني حتى تكتمل أمامي الصورة ، وتنسجم أجزاؤها المتناثرة ، وحضرني سؤال:


ـ ألم تلاحظ بأن الآنسة نورا كانت تهتم بطفل أو طفلة دون غيرها من الأطفال؟..


رفع العم محمود حاجبيه دهشة ، وقال:


ـ هذا سؤال لم يخطر لي ببال..


ثم أردف في حيرة وقد لاحت في نظارته بوادر شك:


ـ ولكن.. لماذا تسأل كل هذه الأسئلة؟


ـ أسئلتي تجاوزت حدود المعقول. بدأت تثير فضول العم محمود وشكوكه.. شعرت بأن أزمة ثقة توشك أن تنشب بيننا ، بيد أني ارتحت قليلا عندما أدركت أن تفكير العم محمود ذهب باتجاه بعيد..


قال العم محمود وهو يميل نحوي كمن يناجي صديقه بسر:


ـ هل في الأمر موضوع خطبة أو زواج؟..


استفدت من هذا الاتجاه الخاطئ ، الذي فكر به العم محمود ، فقلت وأنا أهم بالنهوض:


ـ لا أحد يعرف أين يكون النصيب يا عم محمود!.


انفرجت أسارير العم محمود ، ورفت على شفتيه ابتسامة وادعة ، ثم همس في أذني بنبرة ودودة:


ـ لقد أحسنت الاختيار ، أنت تستحق كل خير.


شكرت العم محمود ، وغادرته بسرعة قبل أن يقذفني بسؤال آخر..


بت الآن أكثر اقتناعا بأن نورا هي والدة الطفلة اللقيطة ، ولكن.. أين نورا؟!..

No comments:

Post a Comment