Friday, March 12, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الثاني و العشرون

خرجتُ وأنا أنتفض من الغضب ، وعندما أسلمتني قدماي إلى الشارع ، أحسست بعمق الجرح الذي خلّفه هذا اللقاء العاصف في نفسي.



ارتميت في سيارتي كالخائر ، وألقيت برأسي على المقود ، ورحت أستذكر كل ما كان..


الآن فهمت كل شيء.. لقد وجد والد أحلام أن رفضه لرغبة ابنته في الزواج مني ، سيزيدها إصرارا على موقفها وتمسكا برأيها ،


فحاول بدهائه أن يستوعبها ، فأبدى استعداده للقائي وبحث الأمر معي ، وقد أعد في خياله خطة خبيثة لتشويه صورتي أمام أحلام..


ظن أن كل الناس مثله.. يسقطون أمام بريق المال ، ويستسلمون في سبيله بسهولة..


صور له خياله المريض أني شاب سهل المنال ، لن تصمد مُثُلُه وأخلاقه أمام عرضه المغري ،


فحاول شرائي بمئتي ألف دولار ، أبيع بها ضميري ، وأستغل لقبي الطبي لأفتي له بصلاحية الأغذية الفاسدة ، فيسوق بضاعته الكاسدة ، وأسقط في نظر أحلام..


هذا الذئب الأنيق.. كم أوتي من الخبث والدهاء؟!..


كل حركة عنده مرسومة ومحسوبة بدقة..


يريد دائما أن يربح..


حتى الخسارة يوظفها ، ويستفيد منها في تحقيق ربح أو فوز جديد..


وعدت أدراجي إلى البيت ، فأغلقت علي باب غرفتي.. واستلقيت فوق سريري منهكا ساخطا كئيبا ، وقد أرهقتْ نفسي الصدمة التي تلقيتها على يد والد أحلام..


هذا الرجل القاسي الذي ملأه المال غرورا وغطرسة واستهانة بمشاعر الناس ومصائرهم!..


واستغرق تفكيري سؤال كبير: كيف سأتمكن من إنقاذ أحلام البريئة الرقيقة من بين مخالب أبيها الذي يقف حاجزا عنيدا بيني وبينها؟..


واعترض أفكاري طرق على الباب ، فاعتذرت عن فتحه متذرعا بالتعب والإرهاق ،


عاد الطرق مشفوعا بصوت أمي وهي تقول:


ـ جاءتك رسالة ، افتح وخذها..


رسالة!.. ما هذه الرسالة؟.


دفعني الفضول لمعرفة مصدر الرسالة وفحواها ، فنهضت متثاقلا ، وفتحت الباب ، قالت أمي وهي تراني أقطر كآبة:


ـ ماذا بك؟ لا تبدو بخير!..


ـ متعب قليلا.. هاتِ الرسالة.


أعطتني الرسالة وهي تشملني بنظرات قلقة ، قالت بنبرة حانية:


ـ هل أصنع لك شيئا؟ تبدو وكأنك مريض.


ـ لا.. لست مريضا.. فقط دعوني أرتاح.


ـ كما تشاء..


وكادت تمضي ، فاستوقفتها وأنا أقلب الرسالة بين يدي:


ـ من أحضر الرسالة؟


ـ رجل غريب.. أعطانيها ثم مضى بسرعة!.


ـ إنها بلا عنوان!.


ـ لكن ، مكتوب عليها أن نسلمها لك شخصيا.


ـ صحيح ، ولكن ، من أرسلها؟


ـ افتحها وستعلم..


فضضت الرسالة ، ,أخرجت ما فيها بسرعة ، فصفعتني المفاجأة ، وأذهلتني ، وقرأت أمي في وجهي غضبا وانفعالا فسألتني على الفور:


ـ ما بك؟ لماذا انقلب لونك هكذا؟


قلت متلعثما ، وأنا أخفي الرسالة خلف ظهري:


ـ لا شيء.. لا شيء..


سددت أمي نظرة ثاقبة ، وقالت:


ـ لا تُخْفِ عني ، فأنا أمك ، وأستطيع أن أستشف ما بداخلك ، لقد أثارتك الرسالة إثارة بالغة!.


ـ قلت لك لا شيء..


ـ بل هناك شيء.


ـ رسالة من صديق.. هذا كل ما في الأمر.


ـ وتثيرك إلى هذا الحد؟!


ـ أرجوكِ أن تتركيني لوحدي..


ـ أنت تخفي عني أمرا خطيرا...


ـ أرجوكِ..


استسلمت أمي لرغبتي ، وغادرتني قلقة متوجسة.. أغلقت الباب خلفها ، وتهالكتُ على كنبة قريبة ،


ورحت أتأمل ما حملته لي الرسالة..


مفاجآت الذئب الأنيق عبد الغني الذهبي لم تنته بعد كما تصورت ،


وخططه الدنيئة كانت أبعد مما أسأت به الظن..


حادثة السكرتيرة اللعوب لم يكن صدفة بحتة ، أو تصرفا عابثا من امرأة سطت عليها الرغبة ، وفقدت كوابح الإرادة..


بل كان تصرفا مدبرا مرسوما بإتقان!..


وها هي الصورة التي حملتها لي الرسالة تثبت ذلك..


لقد استطاع المصور الذي قابلته خارجا من مكتب والد أحلام ، أن يخفي كاميرته خلف الأستار المخملية الزرقاء ،


ويلتقط لي صورا عديدة وأنا أحاول مساعدة السكرتيرة ، واختار منها لقطة مقنعة كما أوصاه سيده..


"أريد لقطة مقنعة"..


وهل هناك لقطة أكثر إقناعا وتشويها لسمعتي من صورة السكرتيرة اللعوب وهي تطوقني بذراعيها ، وتقبّلني؟!..


الأوغاد.. سجل لمشاهدة الصور


من يرى الصورة لا يصدق أن ما جرى كان خدعة قذرة!.. في أي عالم نعيش؟!..


وأمعنت التأمل في الصورة وأنا أرتج من شدة الغيظ والغضب..


إنها صورة محرجة تخيرها والد أحلام بخبث للضغط علي وابتزازي ، إنه محتاط لكل أمر ،


ومصمم على تشويه صورتي أمام أحلام ، وقد توقع ألا تفلح معي سياسة الترغيب ، فابتكر وسيلة للترهيب..


يا له من طاغية حقير..


وكدت أنهض من فوري ، وأذهب إليه لأنشب أظافري في رقبته ، وأحطم جمجمته التي يطبخ فيها مؤامراته الدنيئة ،


لكن صوت أمي عاد يناديني من خلف الباب ، لأرد على مكالمة هاتفية قد وردت للتو.


رجوتها أن تعتذر عني ، لأني كنت في حالة نفسية لا تسمح لي بالحديث مع أحد ،


فأخبرتني بأن المتحدث يقول بأنه صاحب الرسالة ، وأنه يريدني لأمر هام..


عبد الغني يطاردني في بيتي! يريد أن يعرف ردة فعلي على مفاجآته ، ويساومني عليها!..


القذر!!..


نقلت الهاتف إلى غرفتي خشية أن يلحظ انفعالي أحد ، أو يلتقط كلماتي ويفسرها على هواه ،


فلم أكن أدري بأية لهجة سأخاطب بها هذا الوغد!..


قلت له وأنا أتميز من الغيظ:


ـ كان بإمكانك أن ترفضني دون اللجوء إلى هذه الأساليب القذرة التي لا تقدم عليها إلا عصابات المافيا وحثالات البشر.


ضحك ضحكة تفيض بالتشفي ، وقال بصوت هادئ ، وكأنه يمارس لعبة مسلية:


ـ أنت يا عزيزي لم تترك لي خيارا ، لقد اختطفت قلب البنت وإرادتها ، ولعبت برأسها حتى جعلتها تتحداني ،


وتفرض علي رغبتها ، التي هي في الحقيقة رغبتك.


ـ لماذا تتصور أن أحلام خاضعة لتأثير مني؟ لماذا لا تريد أن تقتنع بأنها تعبر عن رأيها ورغبتها الخالصة؟!.


قال بلهجة هي أميل إلى الجد:


ـ دعك من هذا الكلام ، واستمع لما سأقوله لك ،


أنت في ورطة جديدة وعليك أن تواجهها ، وأنا على استعداد برغم كل ما بدر نحوي منك.


لم أفهم ما يتحدث عنه ، لكني لم أعد أستغرب منه أية مفاجأة ، فقد وصل هذا الرجل المريض في تصرفاته معي إلى أسفل الدرك.


قال عبد الغني وهو يتظاهر بالبراءة:


ـ سوسو تدعي..


ـ من سوسو؟


ـ سوسو.. ألا تعرفها؟.. إنها الفتاة التي قبَّلتها في غرفة الاجتماعات.


ـ آه.. سوسو.. تلك السكرتيرة الساقطة التي أمرتها أن تمارس معي لعبتها الدنيئة.


قال متظاهرا بالبراءة والحياد:


ـ الأمر يا عزيزي لم يعد لعبة.. سوسو تدعي أنك قد اغتصبتها بعد أن وعدتها بالزواج ، وهي تزمع أن تشكو إلى العدالة ،


وسوف تقدم صورتك معها دليلا على أيام الغرام والهيام التي قضيتماها معا!.


لم أعد أتمالك أعصابي ، صرت أرغو وأزبد على الهاتف ، أسب وأشتم وألعن ،


وألوح بقبضتي الثائرة ، وألكم بها الهواء..


لم أكن أتوقع أن في هذا العالم بشر منحطون إلى هذه الدرجة..


لأول مرة في حياتي أرتطم بالقاع ، وأغوص في أوحاله القذرة..


لأول مرة أقع فريسة للذئاب البشرية التي تعبث في حياتنا ظلما وفسادا..


وهرعت أمي إلى الغرفة تطرق الباب لتعرف سبب ثورتي وغضبي ، لكني لم أستجب لطرقاتها..


من حسن حظي أنه لا يوجد في بيتنا سوى جهاز هاتف واحد ، وإلا لاستطاعت والدتي أن تفهم طرفا مما جرى ويجري..


قال الذئب عبد الغني في هدوء مثير ، بعد أن استمع إلى حديثي الغاضب بغير اكتراث:


ـ إذا وعدتني بأنك ستبتعد عن طريق أحلام ،


فسأعدك بأني سأمنع سوسو من تقديم الصورة للعدالة.


قلت وأنا ألهث من حدة الانفعال:


ـ يؤسفني أن يتصرف رجل أعمال بارز مثلك بهذا الأسلوب الرخيص.


ـ الغاية تبرر الوسيلة ، أنا لا أريد أن أخسر ابنتي.


قلت وأنا أحاول استعادة هدوئي:


ـ وهل تخسر ابنتك عندما تسمح له بالزواج من الشاب الذي اختارته بكامل إرادتها؟!


ـ ابنتي مازالت ساذجة ، طيبة أكثر من اللازم ، ومن واجبي أن أحميها.


ـ ابنتك فتاة ناضجة أكثر مما تظن.. وهي إنسانة ذكية وواعية ، وتحمل مؤهلا ثقافيا عاليا ،


وليست صغيرة حتى تعالج زواجها بهذه الطريقة المؤسفة.


ضحك بنفس الهدوء المثير الذي بدأ حديثه به معي ، وقال كالشامت:


ـ الثقافة والشهادة ، لا تعني الوعي والإدراك دائما ، ها أنت مثقف مثلها ، ووقعت ضحية فخ بسيط.


صككت أسناني بعنف ، وزفرت ألما وغيظا ، وقلت:


ـ في هذه معك حق ، لم يخطر ببالي أن في البشر من يتصرفون مثلك!..


ـ أكثر الناس يتصرفون مثلي ، لكن ، لكل طريقته..


ألم تسمع عن توظيف نقاط الضعف؟


ـ تقصد صناعة نقاط الضعف.


ـ هذه قواعد اللعبة..


إذا لم يكن لخصمك نقطة ضعف تمسكه منها ، فحاول أن تجره إلى موقف ضعف تستعمله لصالحك..


ألم يعلّموك يا دكتور أن الدنيا حرب وصراع..


قلت وقد بلغ بي الغيظ منتهاه:


ـ حتى الحرب لها أخلاق.. يا سعادة الإمبراطور.


صمت برهة أوحت لي بأنه يبتسم..


لكلمة إمبراطور وقع خاص في نفسه ، ولم يلبث أن قال:


ـ إني أحذرك للمرة الأخيرة ، الأفضل لك أن تبتعد عن أحلام ، وإلا سأشوه صورتك أمامها ، وأجعلها تكرهك للأبد..


أنت تدرك كيف تكون ردة فعل أحلام ، عندما تعرف أنك كنت عشيقا لمومس.


ـ المومس سكرتيرتك ، ويمكن إثبات ذلك بسهولة ، واكتشاف دورك الرخيص في هذه اللعبة.


ضحك عبد الغني.. ضحك طويلا ، وقال:


ـ ألم أقل لك بأنك ساذج؟.. هل تتصور أني يمكن أن أستخدم أشخاصا تستطيع أن تصل إليهم؟..


سوسو يا عزيزي ليست سكرتيرتي ، إنها امرأة غريبة تتجر بجسدها ، وتخلص لمن يدفع لها أكثر..


وقد دفعت لها أجرا مجزيا لم تكن تحلم به ، فسلمتني مقابل ذلك قيادها ، لأحركها كيفما أشاء..


المال يا دكتور كجهاز التحكم عن بعد..


يحرك لك الناس كيفما تريد ، وكلما كان المال سخيا كلما كانت دائرة التحكم أوسع..


لأول مرة أمنح خلاصة تجاربي للآخرين.. علك تصحو وتتعظ..


ثم عاد إلى الضحك ، فوصلت ضحكاته إلى سمعي كقهقهات شيطان..


قلت وأنا أكابد شعورا بالغثيان:


ـ لا أصدق!.. أيكون فينا من هم بمثل دناءتك وبشاعتك؟!..


ـ سأسامحك على كل هذه الإساءات إذا ابتعدت عن أحلام..


ـ الآن عرفت لماذا نحن أمة مقهورة!.


قال غير عابئ بما سمع:


ـ ماذا قلت؟ هل ستبتعد عن أحلام؟


ـ لأول مرة في حياتي أتمنى لو كنت كاتبا متمرسا حتى أعريك وأعري أمثالك ،


ليعرف الناس أية ذئاب تلك التي تتخفى بجلود البشر!..


ـ كن ما شئت ، وابتعد عن أحلام.


هدرت في أذنه عبر الأسلاك:


ـ لكني أحبها.. ألا تعرف معنى الحب؟!..


ـ أنت لا تحبها.. أنت تحب ثروتها.. أنت طامع في ثروتي التي ستؤول إليها..


ـ لو كنت طامعا بثروتك الكريهة ، لرضيت بعرضك هذا الصباح.


ـ من يفكر بثروة كأحلام لا تشبعه مئة ألف..


ـ لماذا تعتقد بأن كل من يفكر بأحلام طامع في ثروتها؟!..


ـ عندما يتقدم من أحلام غني شبعان مثلي ، سأقتنع بأنه قد جاء رغبة بالزواج منها ، وليس طمعا بثروتها!.


ـ أنت تبحث إذن عن صفقة تبيع فيها أحلام.


قال وقد نفد صبره:


ـ لقد أضعت وقتي بما فيه الكفاية.. أنت الآن أمام خيارين..


إما أن تنسحب من حياة أحلام ، أو تركب رأسك ، فتخسر سمعتك أمامها وأمام المجتمع..


أنت تعرف كم هي سمعة الطبيب مهمة أمام الناس الذين يأتمنونه على أسرارهم وأعراضهم!..


ـ هذا ابتزاز رخيص.


ـ أريد أن أسمع قرارك قبل أن أغلق السماعة.


ـ أنت أدنأ إنسان قابلته في حياتي.


ـ إذا لم تفصح عن قرارك خلال ثلاثين ثانية ، فسأقوم بحماية ابنتي منك بالوسائل المناسبة..


كدت أغلق السماعة في وجهه إعلانا عن رفضي لهذا الابتزاز الرخيص ، لكني أصبت بالجبن..


إنه طاغية عاتٍ يعني ما يقول ، ولن يتوانى عن دفع مومسته المرتزقة لتقدم شكواها ، وتلطخ سمعتي بأكاذيبها الملفقة..


والناس للأسف يحفظون الحكايات السيئة بسرعة ، ولا يتثبتون منها ،


والألسنة المريضة تبحث عن قصة تثرثر بها..


سيلتصق اسمي بأذهان الناس كطبيب فاسد ، وسيمسي مستقبلي الطبي على كف عفريت..


حتى لو كافحت وأظهرت براءتي ، فلن أجد من يحفل بهذه البراءة ، أو يذكرها أمام الناس الذين أساؤوا بي الظن.. ووجدتني مضطرا للانحناء أمام العاصفة ، ولو إلى حين ، ريثما أمتلك وسائل الدفاع عن نفسي أمام ابتزاز والد أحلام ، وضغوطه الظالمة..


ومضت الثواني الثلاثون ، فقال عبد الغني:


ـ يبدو أنك تبحث عن المتاعب.


همست في يأس:


ـ لا.. لا داعي.. لا داعي للمتاعب.


ـ سأخبرها بأنك لم تأت لمقابلتي في الموعد المحدد.


ـ لماذا؟


ـ اخترع لها ما شئت من الأسباب ، المهم أن تبتعد عنها...


ثم صَفَقَ السماعة في لؤم ، فصفع صوتها سمعي ، وزاد من شعوري بالهزيمة..


ولأول مرة في حياتي بكيت بمرارة..


بكيت كما يبكي الأطفال..


أحسست بالذل والهوان..


فقدت احترامي لنفسي..


اهتزت ثقتي بالعالم ، احتضرت داخلي كل الأحلام والآمال ، فتكاثف الشؤم ، وألقى بظله الأسود على كل شيء ،


لن تخدعني المظاهر بعد الآن ، لن تخدرني البشاشة التي يلقاني بها الناس ،


الأقنعة التي يرتدونها لن تنجح في اصطياد ثقتي..


وتمددت فوق سريري كالميت ، أحملق بنظراتي الذاهلة في السقف الأبيض الناصع..


كم تحوي أيها السقف تحت طلائك الجميل من بشاعة!..


No comments:

Post a Comment