Friday, March 12, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الثالث و العشرون

لا أذكر أني قضيت ليلة أطول من تلك الليلة!.. قضيتها مؤرقا مسهدا ،



تتناوشني الأفكار والهواجس ، وتعتصرني مرارة العجز والهزيمة...


وأعلنتْ حواسي استنفارا شاملا ، فلم يغمض لي جفن ، أو يهدأ لي فكر..


وجلدتني نفسي بقسوة ، فألهبتني بسياط اللوم والتأنيب..


وبدت لي كل المثاليات التي أحملها كفقاعات متهافتة من الهواء..


تراها جميلة براقة تسبح برشاقة وانسياب ، لكنها تنفجر عند أول صدمة..


تتلاشى ، وتمحى ، وكأنها لم تكن..


وعاث الشك في أعماقي كمارد أحمق ، يحطم كل الصور الحبيبة إلى نفسي ،


ليبحث تحتها عن الزيف والبشاعة التي قد تخفيها ،


وامتدت يد هذا المارد إلى أقرب الناس إلي ، فأنشب أظافره في وجوههم ليختبرها ،


ويتأكد من أنها وجوه حقيقة أصلية ، وليست أقنعة مزيفة كالقناع الذي يرتديه والد أحلام..


وشعرت أن العالم داخلي يتداعي وينهار ، فيسحق تحته كل الأمثلة الطيبة التي كنت أرنو إليها باحترام ،


بيد أن أحلام وقفت فوق أنقاض هذا العالم المتداعي كالمنارة ، تشع طهرا ونقاء ،


فلم يجرؤ مارد الشك أن يمد يده إليها أو أن يخترق هالة الطهر والوضاءة التي تحف بها ،


وطفق يدور حولها مبهورا بنبلها ووضاءتها ،


يحيره ذلك الجوهر الكريم الذي يتوهج داخلها ، ويسطع بكل هذا الألق الفريد..


والتفت حول رقبتي ضفيرة غليظة من الأسئلة ، وراحت تضغط عليها بعنف ، حتى كادت تخنقني!..


كيف ستواجه أحلام؟.. ماذا ستقول لها؟.. كيف ستعتذر إليها؟...


هل ستعترف لها بحبك وإذعانك للابتزاز؟..


أم ستخفي عنها ما حدث ، وتدعي بأنك لم تذهب لمقابلة أبيها في الموعد المقرر؟..


ستسألك ، لماذا ، فماذا سيكون الجواب؟ وكيف ستبرر لها هذا الادعاء؟...


كيف ستصمد أمام عينيها وأنت تقرأ فيهما نعيك كرجل ، وكإنسان؟..


وانتبهت في هدأة الليل إلى شيء!..


أصخت السمع ، ثم تتبعت مصدر الصوت في قلق ، فقادني الصوت إلى غرفة الجلوس ،


كانت أمي تجلس وحيدة في ركن الغرفة تغلب البكاء.. أضأت النور ،


فأخفت وجهها المخضل خلف كفيها ، قلت لها ، وقد أثر بي منظرها الباكي ،


وزادني ألما على ألم:


ـ أماه.. لماذا تبكين؟..


أجابت بصوت متهدج خنقته العبرات:


ـ وهل تريدني أن أضحك؟.. تأتي إلى البيت واجما حزينا ، ثم تغلق عليك الباب..


أسألك أن تصارحني بما يشغل بالك ، فتأبى.. أدعوك إلى طعام الغداء ، فتعتذر بفظاظة..


آتيك بالطعام إلى غرفتك فتضرب عنه.. تقضي الوقت في الغرفة وأنت تحملق في الجدران كالممسوس..


تريدني أن أرى كل هذا ولا أبكي؟!..


تناولت راحتها بين يدي ، وطبعت على ظاهر كفها قبلة اعتذار.


قلت في تأثر:


ـ أماه.. أنت تبالغين في فهم الأمور.. لا شيء يدعو للقلق.. قومي فاخلدي للنوم.


ـ لن أنام حتى أعرف ما الذي يشغلك؟


ـ قلت لك لا شيء..


ـ أنت تكذب!..


ـ أماه!..


ـ أنت تخفي عني أمرا عظيما لا يسر.


أطرقت في صمت.. تستطيع أن تخفي كل شيء عن الناس ، لكنك لا تستطيع أن تخفي شيئا عن الأم..


سيكتشف العلماء ذات يوم حاسة جديدة تدعى حاسة الأمومة ، وسيجدون عليها ألف برهان..


قلت لها بنبرة مستسلمة:


ـ لا أنكر أني قد تعرضت اليوم لتجربة مؤلمة ، لكني لا أجد ضرورة للحديث عنها..


الحديث فيها يؤلمني أكثر ، وأنت لا تريدين لي المزيد من الألم.


هدأتْ قليلا ، وقالت:


ـ أتخبرني بما يشغلك فيما بعد؟


ـ ستعرفين يوما كل شيء.


ـ مازلت قلقة عليك!.


ـ ألا تثقين بقدرة ابنك على مواجهة الأزمات؟


صمتت ولم تجبْ!.... بدت كأنها ليست واثقة!... عذَّبني صمتها ، إنها تعرف أن ابنها ضعيف!...


أطرقت في حياء ، قالت بعد تفكر:


ـ أما زلت تفكر في أحلام؟


مس هذا السؤال فؤادي المجروح كذرات من الملح ، فالتهبت آلامه من جديد ، قلت وأنا أتهرب من نظرتها:


ـ أحلام كانت فكرة ، والأمر لم ينضج بعد.


ـ أنت تحبها أليس كذلك؟


ـ هذا الموضوع يحتاج إلى وقت آخر..


صمتت ثانية ، وقد أدركت أن صدري مغلق أمام محاولاتها لاكتشاف سري ، ومداواة جرحي..


قالت بعد تأمل حزين:


ـ إذا كنت مصرا على الزواج من أحلام ، فأنا مستعدة لبيع الأرض التي ورثتها عن والدي ،


لتؤمّن لها المستوى المادي الذي يليق بها..


رنوت إليها في ود وفخر..


كم هو الفارق بين إنسان يضحي بكل ما يملك من أجل سعادة ولده ،


وبين إنسان يضحي بسعادة ولده من أجل ما يملك!..


كم هو الفرق هائل وبعيد!!..

No comments:

Post a Comment