Friday, March 12, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الرابع و العشرون

استقبلت صباح اليوم التالي برهبة ، كنت مشفقا من لقاء أحلام ، وترددت!..




هل أذهب إلى المستشفى أم أبقى؟ هل أقدم على مواجهة الموقف أو أحجم؟


كان السهر والأرق والسهاد قد تراكم على أعصابي فأرهقها.


وسرى الوهن في جسدي كالداء ، فوجدت فيه ذريعة للهروب.


اتصلت بالمستشفى لأطلب إجازة ، فأخبروني بأن الدكتور مأمون يحضّر لعملية مهمة


وقد طلب من جميع الأطباء أن يكونوا حوله في غرفة العمليات ليطلعوا على الحالة الجديدة ،


ويتعرفوا على التقنية الجراحية التي سيستخدمها...


لم يكن أمامي مفر من الذهاب ، فالدكتور مأمون يغفر كل شيء في العمل إلا الغياب عن مثل هذه العمليات!.


وذهبت. دلفت إلى المستشفى متثاقلا أقدم رجلا وأؤخر أخرى ،


خفق قلبي وأنا أصافح الوجوه بنظرات حذرة.. ماذا لو ظهرت أحلام أمامي فجأة؟


وبأي وجه سأقابلها؟ ورقيت في الدرج كالخائف ،


ثم تسللت إلى غرفة الأطباء المقيمين. كان هاني يهندس شاربه الكث أمام المرآة..


ألقيت عليه تحية الصباح ، فرد علي خياله المنعكس على المرآة ،


جلست على حافة السرير كالمهدود ، وأخذتني سِنَة من الشرود..


التفت إليَّ هاني فجأة ، وقد لحظ وجومي عبر المرآة ، قال باهتمام:


ـ صلاح.. ما بك؟


ـ لا شيء..


ـ أنت حزين!


تكلفت بابتسامة واهنة وقلت متظاهرا بالإنكار:


ـ أنا؟


ـ نعم.. أنت لست على ما يرام..


ـ متعب قليلا.. لم أنم جيدا هذه الليلة.


عاد إلى مرآته ، وراح يشد أزرار ردائه الأبيض إلى عراها بإحكام..


قال وهو يتأكد من سلامة هندامه:


ـ هو الأرق إذن..


أومأت بالإيجاب ، ونهضت إلى خزانتي لأرتدي ثوب العمل..


أردف هاني وهو يدس جهاز الإنذار في جيب ردائه المكوي بعناية:


ـ أرق المفلس أم أرق العاشق؟


ـ بل أرق المفجوع!


ـ بمن؟


ـ بهذا العالم..


ضحك هاني ، وقال:


ـ يا مسكين.. سيظل هذا العالم جاثما فوق صدرك حتى يسحقك تحته ،


كفاك تفكيرا بهذا العالم ، والتفت لنفسك.. روّح عنها بعض الشيء ، و انجُ بها من الأرق والقلق..


روّضها على عدم الاكتراث.. افعل مثلي ، فأنا لم يعد يهزني شيء..


وكان يهم بالخروج ، فتوقف فجأة وهو يراني مازلت غارقا في همومي لا أحفل بتعليقاته الساخرة..


قال ناصحا:


ـ لا تنسَ أن تزين وجهك بابتسامة قبل أن تنزل ،


فمنظرك المقطب قد يصيب المرضى بالاكتئاب.


ثم دس يده في جيبه ، ومضى وهو يصفر في مرح.


مازالت أعصابي مشدودة إلى لحظات المواجهة.. تمنيت لو أن الأرض تنشق وتبتلعني ، ولا تراني أحلام..


كم سأبدو في نظرها تافها وضعيفا!....


سأبدو أخرقَ مترددا لا يملك أن يأتي بقرار ، وسأبدو وغدا كريها لا يحترم مشاعر الآخرين..


ورن جرس الهاتف ، فرفعت السماعة بيد ثقيلة ، كان هاني على الطرف الآخر..


ـ صلاح.. نسيت أن أخبرك.


ـ ماذا؟


ـ الدكتور مأمون يريدنا في غرفة العمليات.


ـ أعلم.


ـ أسرع إذن.. لقد دخل الآن..


وهرعت إلى جناح العمليات كجندي جبان يحب الحرية ، ويهاب الموت!..


غسلت يدي بالصابون ، وارتديت الملابس المعقمة الخاصة بغرفة العمليات ،


ثم أحكمت وضع القناع الطبي فوق أنفي...


شعرت بشيء من الارتياح لأن هذا القناع سيخفي تحته تعابير وجهي المقطبة.


وانضممت إلى زملائي الأطباء الذي التفوا حول الدكتور مأمون في غرفة العمليات..


لم أجرؤ في البداية على رفع نظراتي لأطوف بها على وجوه الزملاء ،


خشية أن تلتقي بأحلام! أخذت مكاني في الحلقة التي انفرجت قليلا لتضمني ،


وركزت بصري على جسد المريض الممدد أمامي بانتظار مبضع الجراح..


لكن الدكتور مأمون لم يرحمني.. قال مداعبا:


ـ أراك اليوم في ذيل القافلة يا دكتور صلاح.. عهدي بك دائما الأول!.


وأردف هاني في محاولة ماكرة لإحراجي:


ـ لقد أخرتنا يا دكتور صلاح.. منذ متى ونحن ننتظر!..


ضحك الجميع لدعابة هاني ، بينما قال الدكتور مأمون لهاني مازحا:


ـ اسكت أنت.. دائما تحب الاصطياد في الماء العكر.


ـ ظننتك ستمنحني مكافأة!..


ـ لماذا؟


ـ لأني أول من حضر اليوم إلى غرف العمليات..


ـ ستنال مكافأتك في الحال..


ـ أرجو أن تكون مجزية..


ـ ستقوم بتجفيف الدماء أثناء إجراء العملية.


ابتسمت لهذا التكليف الذي لا يخلو من دعابة ، بينما ضحك الآخرون ، المعروف عن هاني أنه يؤثر الراحة ،


وكثيرا ما كان يتقصد التأخر عن مثل هذه العلميات ،


حتى تكون الأدوار قد وزعت ، فيكتفي بالمشاهدة ، وبدأت المجزرة كما يسميها هاني عادة ،


فأغمد الدكتور مأمون حافة مقبضه الحادة في بطن المريض ،


وأخذ يفتح به مدخلا إلى أحشائه المصابة..


انتهزت فرصة انشغال الجميع بما يجري ، فاختلست إلى أحلام نظرة متسللة ،


لكنها ضبطت نظرتي الجبانة وهي تزحف إلى وجهها الشاحب ،


سربلني منظرها الشجي بلهيب الأسى والغم ، وقرأت في عينيها لوما موجعا ،


وعتبا مريرا لم أصمد له ، فنكست بصري وتظاهرت بالانشغال..


وفرغ الدكتور مأمون من جراحته ، فغادرت المكان على عجل ، ولُذْتُ بمقصف العم درويش..


جلست مرهقا منهكا كالمحموم ، تطاردني النظرات اللوامة التي سددتها إلي أحلام.


وجاء العم درويش يسألني عما أشتهي ، فطلبت فنجانا من القهوة ، فخف لإحضاره ،


وقد لاحظ ما أنا فيه من ضيق.. ولم يلبث قلبي أن خفق وأنا أصغي لإيقاع خطوات أحلام ،


وهي تدق الممر الطويل المفضي إلى الاستراحة.


وقفت أحلام أمامي في كبرياء وسألتني بنبرة صارمة:


ـ لماذا لم تحضر لمقابلة والدي بالأمس؟


انفجر سؤالها داخلي كقنبلة تتشظى بالمرارة ، لقد نفذ أبوها دوره بدقة ،


وعليَّ أن أتم الفصل الثاني من المسرحية.


رجوتها أن تجلس ، لكنها كررت السؤال بنبرة أشد وطأة وإيلاما..


قلت لها متجاهلا سؤالها القاسي:


ـ ماذا تشربين؟


جلست وقالت:


ـ كان أولى بك أن تحزم أمرك قبل أن أضرب لك موعدا مع أبي.


كدت أنفجر أمامها ضاحكا ، وأدلي لها بكل ما كان ، فأعري أبيها الماكر ،


لكني تذكرت العواقب المحتملة ، فضعفت ، وتنهدت:


ـ أحلام... يبدو أننا لم نخلق لبعضنا..


دمعت عيناها وقالت:


ـ الآن تقول هذا الكلام؟.. أبعد أن خضت مع أمي وأبي معركة من أجلك؟


. هل أنا رخيصة عندك إلى هذا الحد؟.. لماذا هذا التردد؟..


ما الذي غير رأيك بهذه السرعة؟..


اخترقتني كلماتها كحزمة من الرماح ، تضاءلت أمامها وأحسست بالصغار..


قلت متهربا من نظراتها الثائرة:


ـ فكرت في أمر هذا الزواج ، فوجدت أنه لا يمكن أن يعيش!


ـ لماذا؟


ـ لدي أسبابي.


رمقتني بنظرات كسيرة ، وهمست:


ـ أنت تحكم علي بالعنوسة إلى الأبد..


ـ ستنسيني عما قريب.


همست بنبرة ترتعش:


ـ كيف تجرؤ على هذا الكلام؟..


ـ أنا عاجز عن القرار.. الآن ، على الأقل..


رفعت هامتها في كبرياء ، وقالت:


ـ أما أنا فقد اتخذت قراري.. إما أنت ، وإما لا..


هتفت في ضراعة:


ـ أحلام.. أحلام.. لا تكوني عنيدة ، لنتصرف بواقعية..


قد يكون ما بيننا أعمق وأروع ما يمكن أن ينشأ بين شاب وفتاة ،


لكن العواطف شيء ، والواقع شيء آخر..


قالت في حدة:


ـ ما قيمة هذا الواقع إذا لم نعِشْه كما نريد؟.. إذا لم نصُغْه وفق قناعاتنا وأفكارنا؟..


ـ لكن هذه القناعات ستتبدل بعد الزواج..


بعد الزواج ستشعرين بالفرق بين حياتك معي والحياة التي كان يوفرها لك أبوك..


ستشعرين بأن الزواج قد حرمك من أشياء كثيرة ، وستفقدين حياة الرفاهية والنعومة التي تعودت عليها..


ستتراكم في نفسك مشاعر التأفف والملل ،


وستشوه التفاصيل الصغيرة العلاقة الرومانسية الحالمة التي تجمعنا..


سنكتشف أنا خدعنا أنفسنا ونغرف في الندم..


لماذا لا نجنب أنفسنا هذه التجربة الفاشلة منذ الآن؟


حدجتني بنظرة قاسية وقالت:


ـ أنت تتحدث كوالدي تماما.. أصبحت تربط كل شيء بالمادة!.. ثمة شيء أجهله قد غيرك!!..


ـ كل ما في الأمر أني لم أصل إلى قرار..


أطرقت كاسفة حزينة وقالت في يأس:


ـ أنت لا تريدني.. نعم. لا تريدني..


كان يجب أن أفهم برودك نحوي منذ البداية..


ظننت ترددك خوفا وإشفاقا من أن أخذلك ، فشجعتك ومهدت لك الطريق ،


فجاملتني دون أن تملك نحوي نفس الأحاسيس والمشاعر ، أنا الملامة على أية حال..


أستطيع الآن أن أتخذ قراري..


لن تجمعني الحياة بك بعد الآن ، ولن تجمعني برجل من بعدك.. الوداع...


ثم مضت... مضت غاضبة حزينة بعد أن زرعت نفسي بوجد عارم ،


تمنيت أن ألحق بها لأبوح لها بالحب الذي يضطرم بين ضلوعي ، لكني لم أجرؤ..


فالبوح سيزيد موقفي تناقضا وغموضا!..


هل أدوس على قلبي وأرضخ للابتزاز ، أم أبدأ المعركة مع والد أحلام؟


ما أقسى أن تجد في طريقك سؤالا بلا جواب!...

No comments:

Post a Comment