Friday, March 12, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الخامس و العشرون

هل سمعت آخر الأخبار؟.



ـ ماذا؟


ـ الدكتورة أحلام استقالت.


هتفت كالملدوغ:


ـ استقالت؟!..


قال هاني في هدوء:


ـ ظننتك تعرف!


ـ من أين علمت؟


ـ الدكتور مأمون أخبرني ، التقيت به هذا الصباح ،


فقال لي بأن الدكتورة أحلام قد جاءته البارحة في نهاية الدوام ، وطلبت منه أن يقبل استقالتها.


ـ كان عليه أن يرفض..


ـ كانت مصرَّة..


ـ ألم يسألها عن السبب؟


قال هاني متخابثا:


ـ لعلها قد خطبت ، وقررت الاستعداد لبيت الزوجية.


قلت حانقا:


ـ هاني.. كف عن هذرك!


ـ لماذا استقالت إذن؟


ـ لعلها.. لعلها..


ـ لعلها ماذا؟


ـ لا أدري..


ـ لقد ضايقك قرارها.. أليس كذلك؟..


ـ أنت تعرف معنى أن ينقص طاقم أطباء الطوارئ واحدا.


ـ أهذا ما يقلقك؟


ـ ماذا تقصد؟!


ـ لقد بات اهتمامك بأحلام ، وتعلقك بها ، واضحا..


لا يمكن للعاشق أن يخفي وجده طويلا..


أحرجتني ملاحظة هاني ، لابد أنه يشعر الآن بأن أحلام قد رفضته من أجلي..


قلت وأنا أداري ارتباكا:


ـ هاني.. دعنا من هذا الحديث أرجوك..


همس هاني وهو يلتفت ذات اليمين وكأنه يخاطب شخصا قادما من بعيد:


ـ اطمئن.. لقد نسيتها تماما.


ـ بهذه السرعة؟


ونادتني إحدى الممرضات:


ـ دكتور صلاح.. الدكتور مأمون يريدك أن توافيه في مكتبه.


استأذنت هاني ، ومضيت إلى جناح الإدارة ، قال لي الدكتور مأمون وهو يستقبلني في وجوم:


ـ عرفتَ طبعا..


ـ أخبرني هاني.


ـ قالت أنها تريد أن تتفرغ للرسم ، هذه أول مرة أعرف أن الدكتورة أحلام رسامة!


لقد استطاعت أحلام أن تختار حجة مناسبة للاستقالة.


أطرقت متألما.. أنا الوحيد الذي يعرف السبب الذي يكمن وراء استقالتها..


تابع الدكتور مأمون في حيرة:


ـ كان يبدو عليها التعب والحزن.. أعتقد أن هناك سببا آخر دفعها للاستقالة..


غير حبها للفن والرسم!...


قلت في محاولة لتبديد شكوكه ، حتى لا يسترسل في بحثه عن الحقيقة:


ـ الدكتورة أحلام ليست الطبيبة الأولى التي تهاجر من الطب إلى الفن..


كثيرون هم الأطباء الذين يستهويهم الفن والأدب.


ـ نعم ، لكنها كانت تستطيع أن تجمع بين الطب والفن.. لا... لا... حجتها ليست مقنعة.


ثم أردف وهو ينظر إلي كالشارد:


ـ ألا تستطيع أن تقنعها بالعودة؟


فاجأني سؤاله ، تهربت من السؤال بسؤال:


ـ لماذا أنا؟


ـ فهمت أنها تثق بك وتحترمك!.


ـ من الذي أوحى لك بذلك؟


ـ العم درويش.. أنسيت أن العم درويش عيني عليكم؟


ابتسمت وأنا ألقي برأسي إلى الخلف. العم درويش..


لا بد أنه التقط بحدسه المعنى الذي كان يكمن خلف نجوانا..


مال الدكتور مأمون على مكتبه ، وقال بصوت أقرب للهمس:


ـ العم درويش يعتقد بأنك وأحلام لائقان ببعضكما البعض ،


همس لي بذلك منذ أيام ، وأنا أشاطره الرأي..


نكأ كلام الدكتور مأمون جرحي.. قفزت ذكرى لقائي بوالد أحلام إلى خيالي فجأة ،


فشعرت بوخزة مؤلمة.. بعض الناس يستعذبون عذابات الآخرين!..


لماذا يقف هذا الوغد في طريق سعادتنا؟!


قلت متهربا من نظرات الدكتور مأمون التي حاولت سبر أغواري:


ـ سأحاول إقناع أحلام.


ـ إني أعتمد عليك.


ـ وإذا لم توافق؟


ـ أريد أن تجد بديلا بها.. أريد بديلا يكون بأخلاقها ومهاراتها.. أنت تعرف طريقتي في اختيار الأطباء..


قلت مرددا عبارة شهيرة كثيرا ما كررها الدكتورٍ مأمون على مسامعنا:


ـ الأخلاق أولا ، والمهارة ثانيا ، والأخلاق والمهارة معا.


قال وهو ينهض مودعا:


ـ حاول أن تقنع أحلام أولا.. لا أريد أن نخسرها.


كانت المهمة صعبة ، وكان علي أن أنجزها ، يجب أن تعود أحلام ، لن أتركها تفسد مستقبلها من أجلي..


ولكن... كيف أستطيع إقناعها بالعودة؟..


كيف أكون الخصم والحكم في آن واحد؟!..


واتصلت بها.. رد علي صوت نسائي رجحت أنه صوت والدتها:


ـ الدكتورة أحلام موجودة؟


ـ من يريدها؟


ـ مستشفى ابن النفيس.


غاب الصوت قليلا ، ثم جاء صوت أحلام هادئا رزينا في بحة شجية ، قلت كالعاتب:


ـ لقد تسرعت كثيرا في قرارك.


عرفت صوتي على الفور.. قالت بعد صمت قصير:


ـ ألم تطلب مني أن أنساك؟ هذا أفضل طريق.


ـ أنت تتصرفين تحت وطأة الصدمة!.


ـ كان لابد أن نفترق.. عاجلا أم آجلا..


وخزتني كلمة الفراق ، وأوجعتني.. قلت في ألم:


ـ أرجوك.. لا تتحدثي عن الفراق.


صمتت قليلا ، ثم قالت بصوت حزين:


ـ لقد اتفقنا على مواجهة الواقع.


ـ ليس بهذا الأسلوب.


ـ لكل أسلوبه.


ـ أنت غاضبة.


ـ هل يهمك غضبي إلى هذا الحد؟


صورتي أمامها تنهار شيئا فشيئا ، أصبحت في نظرها إنسانا مشوها لا يعبأ بأحاسيس الناس ،


ولا يقيم لمشاعرهم وزنا ، قلت في محاولة لاستعادة ثقتها بي:


ـ أحلام... تأكدي أني أحترمك وأحترم مشاعرك ، ولكن...


قاطعتني بنبرة غاضبة:


ـ أعتقد أن هذه المواضيع قد انتهت بيننا ، هل أستطيع أن أخدمك بشيء؟!..


أحسست أن صوتها يتهدج ، ونبراتها ترتعش ،همست مشفقا:


ـ أحلام.. لا أريد أن أكون سببا في إفساد مستقبلك ، إذا كان تركك للعمل في المستشفى ، بسببي فأنا...


ـ أنا أتخذ قراراتي بملء إرادتي ، وليس بسبب أحد..


ـ تصرفك السريع عقب ما جرى بيننا يجعلني أشك في قرارك!.


ـ كل ما في الأمر أني أحضر للمعرض الذي سأقيمه بعد أسابيع ،وقد رأيت أن أتفرغ للإعداد له ،


حتى تكون لوحاتي جديرة بأن يدعى إليها الناس.


قلت في توسل:


ـ أحلام.. أرجوك أن تعودي.


هتفت في ضيق:


ـ أرجوك ألا تعود إلى هذا الموضوع.


ـ ولكن..


ـ هل تسمح لي بإغلاق السماعة؟


صفعتني بطلبها اللبق الذي يخفي خلفه حزنا وغضبا ومرارة.. اجتاحتني خيبة خانقة.. قلت بنبرة عاتبة:


ـ لم أتوقع أن حديثي معك سيكون ثقيلا إلى هذه الدرجة!


قالت بصوت متهدج:


ـ آسفة إذا كان طلبي هذا فظَّاً ، لكني في حالة نفسية لا تسمح لي بالحديث مع أحد.


ثم انفجرت باكية وهي تغلق السماعة برفق ، فمزقني صوتها الباكي ، وغاص في قلبي كمُدية من الجمر..

No comments:

Post a Comment