Friday, March 12, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - السادس و العشرون

غربت أحلام من حياتي كما يغرب القمر ،



وتركتني وحيدا في بيداء مظلمة كل ما فيها أسود شاحب وكئيب..


ومرت علي الأيام التالية بلا طعم أو روح ، فأغلقت صدري على ما حدث ،


وانكفأت إلى داخلي أتابع حركة الهزات والزلازل التي ضربتني بعنف ،


فزعزعت أركاني ، ودمرت أحلامي ، وأحاطت برؤيتي المسالمة للحياة..


وأدمنت الصمت ، فلا أُرَى إلا واجما ساهما غارقا في شرود عميق ، وحُبِّبتْ إلي الوحدة ،


فوجدت راحتي في العزلة والابتعاد عن الناس..


قال لي هاني ذات مرة :


أنت لم تعد أنت.. إنسان لا أعرفه ، أراك ولا أجدك ،


لا أرى فيك سوى بقايا رجل!.. ما الذي حدث لك بحق الإله؟..


لم يستفزني كلامه ، ولم أجد رغبة في الرد، ابتسمت كالأبله ، ورنوت إليه بنظرة باردة لا معنى لها ،


قال وهو يحدجني في تفكر:


ـ أنت تعاني من صدمة نفسية قوية!..


لم أعلق.. كأن حديثة لا يعنيني.. تابع قائلا:


ـ لا شك أنك قد مررت بتجربة مثيرة!..


نعم.. تجربة غير مألوفة أفقدتك توازنك!!..


ثم أردف في دعابة كالذي يحزر:


ـ لعلك قابلت كائنات غريبة قادمة من الفضاء!..


شاهدت فيلما عن حالة مشابهه..


كان البطل يتنزه في الحقول ، فحط قربه طبق طائر ، وخرج منه ثلاثة رجال كالقرود ،


فاختطفوه وطاروا به بعيدا إلى أعماق الكون البعيد..


وعندما عادوا به إلى الأرض كان قد صار هكذا مثلك..


يحملق في الهواء ، ويغرق في التأمل ، ويخشى الناس..


وضحك هاني ليبعث الحياة في دعابته ، لكن ضحكته جاءت نشازا ،


شعر بالإخفاق والخذلان لأني لم أتجاوب مع ضحكاته ، غير أنه لم ييأس ،


قال كمن وضع يده على أمر خطير:


ـ لا.. لا.. أنت مدمن مخدرات ، بعض المخدرات تفعل هكذا!..


تصيب الإنسان بالصمت والشرود ، وتنقله إلى عوالم مبهمة..


تراه معك وهو ليس معك.. هائم في عالمه الغريب.. نظراته بليدة ، وحركاته واهنه ، وعقله مسافر..


إلى أين؟.. لا تدري!.. يؤسفني أنك تحولت من مصلح إلى حشاش!..


ابتسمت رغما عني.. قلت وأنا أشيح بوجهي عنه:


ـ هاني دعني وشأني..


ـ لن أدعك حتى تبوح لي بما غيّرك!..


ـ لم يغيرني شيء..


ـ صمتك يغيظني..


ـ الصمت خير من الكلام..


ـ لم تكن هذه حكمتك من قبل!.


***********


وعشت في البيت كالغريب..


أضحك للضحكات ، وأبسم مع الباسمين ،


أراقب ما يجري حولي كطفل لم يمتلك لغة التخاطب مع البشر بعد..


ولاحظ الجميع ما آلت إليه حالي ، ويئسوا من اختراق صدري ليعرفوا ما الذي يدور فيه؟


وأدركت أمي أني أمر بأزمة من نوع غريب لم تعهده من قبل ،


فانضمت إلى قائمة اليائسين ، وهي تكابد حيرة وعجزا..


************


وافتقدتُ أحلام.. افتقدت حديثها الحلو الذي ينساب كلحن عذب..


افتقدت ابتسامتها الرقيقة التي كانت تملأ الكون فرحا وبهجة..


افتقدت نظراتها الوادعة الحالمة التي تطل من عينيها على استحياء ،


فتدعوك لتنطوي ككرة صغيرة ، تنام في محجريها الدافئين ،


وافتقدت روح أحلام تلك الروح الرقيقة التي تشف عن جوهرها النقي ومعدنها النبيل ،


من يستطيع أن يُسكت نداءات الروح المشتاقة إلى توأمها الغائب الحزين؟


من يستطيع أن يقمع آلام الروح عندما يضنيها الفراق ويوجعها الحنين؟..


وصارت الأحلام السوداء تغزوني في الليل ، تنقض علي كالكوابيس ،


وتقض مضجعي بمشاهدها القاسية العنيفة ،


رأيت أحلام ذات مرة تزف إلى آخر ،


فأفقت كالمجنون ، وقد روعني هذا الحلم الفظيع الذي حرمني من فتاتي..


ووجدتني ذات منام أصارع ثعبانا مخيفا له جسد أفعى ورأس إنسان..


وسرعان ما تبينت أن الرأس رأس عبد الغني الذهبي ، فدهشت!..


وكاد الثعبان العجيب يقضي عليَّ لولا أن ظهر الأستاذ سعيد الناشف فجأة ، وهو يحمل فأسا غريبة..


في أحد رأسيها شفرة فأس ، وفي الطرف الآخر رأس قلم!..


ولم يلبث الأستاذ سعيد أن أغمد رأس القلم المدبب في جسد الثعبان ،


فانشغل الثعبان عني ليواجهه الخطر الجديد ،


فتناولت الفأس من الأستاذ سعيد وهويت بها على الثعبان ،


ففصلت شفرة الفأس بين رأسه وجسده ، لكن رأس عبد الغني الذبيح ظل حيا ،


وراح يضحك ويقهقه ساخرا مني ، هازئا بمحاولاتي للقضاء عليه ،


وسرعان ما نَبَتَ له جسم ثعبان جديد ، فمد ذيله نحوي ،


ولفه حول عنقي وراح يضغط عليه بقوة ، فأفقت وأنا أتخبط كالغريق!..


وأفاق أهل الدار ذات ليله على صوتي ، وأنا أهتف وأصيح :


فليسقط الظلم.. الموت للظالمين..


وعندما أيقظوني من حلمي ، تذكرت أني كنت أقود الجموع في المنام ،


وأحاصر بها برج عبد الغني الأزرق ،


وأحرضها على تدمير هذا الصرح الذي قام على جماجم الأبرياء..


وخطر لي مرة أن الذئب الأنيق عبد الغني الذهبي قد يكون نفَّذ خطته


في تسويق أغذية الأطفال الكاسدة التي انتهى عمرها المفيد ، وبدأ فعلها السامّ!..


نزلت إلى الأسواق كالمجنون ،


وطفقت أطوف على محلات بيع الأغذية والصيدليات التي أعرفها لأتفقد ما لديها من أغذية أطفال ،


واضطرابات لشراء بعض العينات حتى لا أنبه الباعة إلى غرضي ،


لم أعثر على أية عينية مخالفة ، جميعها صالحة للاستهلاك ،


لا يمكن أن يُسلِّم عبد الغني بخسارة مليون دولار بهذه السهولة ،


لابد أنه قد سوَّق الأغذية الكاسدة في الريف ، هناك مازال الوعي بهذه القضايا ضعيفا ،


والذين يهتمون بتاريخ الاستهلاك قليلون ، توقفت عند أحد أصدقائي من الصيادلة ،


استغرب صديقي وهو يراني أحمل أصنافا من علب أغذية الأطفال ،


قال مداعبا وهو يستقبلني في صيدليته:


ـ أضاقت فرص العمل بالأطباء حتى صرت تعمل مروجا تجاريا لأغذية الأطفال؟..


أرسلت تنهيدة وابتسامة وقلت:


ـ من يدري؟ قد تلجئُنا البطالة التي تتسع في صفوفنا إلى أكثر من ذلك!.


ضحك وقال:


ـ لعلك تزوجت وأنجبت! كيف تفعلها ، ولا تدعوني؟


قلت ساخرا:


ـ لا تتفاءل كثيرا ، الأمر غير هذا تماما..


ـ لماذا تحمل كل هذه الأصناف إذن؟


قلت مورياً تفاصيل الحقيقة:


ـ سمعت أن أحد التجار الجشعين قد طرح في الأسواق كمية كبيرة من أغذية الأطفال التي انتهى زمن استهلاكها ، فأحببت أن أتأكد من ذلك.


قال صديقي بنبرة تعجب:


ـ أما زلت تحمل الدنيا فوق ظهرك؟.. ظننت أن السنين قد غيَّرتك!..


قلت في قلق:


ـ أتقوم وزارة الصحة بمراقبة دقيقة للسوق؟


فتح صديقي ثلاجة صغيرة قرب المكتب ، فأخرج منها علبتي عصير.


قال وهو يقدم لي إحداها:


ـ وزارة الصحة تستطيع أن تراقب السوق ، لكنها لا تستطيع أن تراقب الضمائر.


ثم أردف وقد أحاطت بشفتيه ابتسامة ذات معنى:


ـ إنهم يزوِّرون تاريخ الاستهلاك يا صديقي.. وأحيانا يتواطئون مع الشركات الصانعة من أجل ذلك!


ـ الشركات الصانعة!.


تناول صديقي الصيدلي كتابا أنيقا ، ودفعه إلي..


ـ اقرأ هذا العنوان..


تأملت غلاف الكتاب:


ـ (الجرائم المنظمة في الصناعات الدوائية) تأليف "جون بريثويت" قال صديقي موضحا:


ـ هذا الكتاب صدر في انكلترا قبل سنوات وأحدث صدوره ضجة كبيرة ، ولا سيما في العالم الثالث..


ـ العالم الثالث!..


ـ أجل.. مازالوا ينظرون ـ إلينا ـ بعين المستعمر الذي لا يرى في بلادنا إلا منجما للثروات


أو سوقا لتصريف البضائع ، نحن بالنسبة إليهم مخلوقات من الدرجة الثانية


لذلك يستهينون بشعوبنا ويصدرون إليها أغذية وأدوية غير صالحة للاستهلاك الآدمي..


ستجد في هذا الكتاب حقائق مذهلة عن شركات تصدِّر إلينا أدوية خالية من أي تأثير ضار..


ستقرأ عن أدوية تباع إلينا على أنها علاج لأمراض لم تصمم هذه الأدوية لها أصلا.


ستقرأ عن تزوير في الجرعات اللازمة لمقاومة المرض..


يزيدون الجرعات أضعافا مضاعفة ، حتى تستهلك كميات أكبر من الدواء ، فيربحون هم ،


ونصاب نحن بالمناعة ضد مفعول الدواء ، فلا يعود يؤثر فينا ،


بعض الشركات جربت أدويتَها الجديدة في بلادنا ،


وزعت أدويتها الخطيرة على البسطاء والفقراء كهبات وعطايا ، لتختبر مفعولها فيهم ،


عاملتْهم كما تعامل فئران التجربة ، ولم تحترم إنسانيتهم أو حقهم في الحياة..


بعضهم مات ، وبعضهم أصيب بأمراض خطيرة ،


ولم يرتفع لهؤلاء صوت لأنهم لم يدركوا أن ما تم جريمة!..


هالني ما سمعت.. أيصل استخفاف الدنيا بنا إلى هذا الحد؟.. قلت في حماس:


ـ يجب أن تقوم الصحافة بفضح هذه الأساليب البشعة..


يجب أن يطلع الجمهور على هذه الحقائق..


قاطعني صديقي بنبرة ثقة وقال:


ـ هذا الموضوع لا ينفع معه ألف مقال ، ولا ألف كتاب..


الحل الوحيد هو أن نتحرر من التبعية الاقتصادية المذلة.. أن نصنع دواءنا بأيدينا..


أن نصنع غذاءنا بأيدينا.. حتى السلاح يجب أن نصنعه هنا ،


لأن الأمة التي لا تصنع غذائها وسلاحها لا تستطيع أن تحمي استقلالها أو تصنع مستقبلها..


قلت وأنا أهم بالنهوض:


ـ هذا الحديث ذو شجون.. سنلتقي في فرصة أخرى ونتحدث...


وودعته مثقَلا بالهموم ، نحن أمة كُتِب عليها التحدي ، وأمه كهذه يجب ألا تنام ، ولكن...


كيف تواجه التحدي وعبد الغني الذهبي وأمثاله ينهشونها من الداخل؟..


أيكون عبد الغني قد زوّر تاريخ الاستهلاك؟ يجب أن أتصرف قبل أن تصل الأغذية الفاسدة إلى أفواه الأطفال!..


وومضت لي فكرة فلذت بها.. رفعت السماعة وطلبت وزارة الصحة..


ـ وزارة الصحة معك.. نعم..


ـ أريد قسم المراقبة الغذائية ، المدير لو سمحت..


ـ لحظة من فضلك..


وجاءني صوت المدير هادئا وعميقا:


ـ نعم..


ـ ثمة بلاغ هام أريد أن أدلي به.


ـ من المتكلم؟..


ـ لا داعي لذكر الاسم..


ـ تفضل..


ـ هناك تاجر جشع يستعد لطرح كمية هائلة من أغذية الأطفال التي انتهت مدة استهلاكها في السوق..


هذا إن لم يكن قد طرحها فعلا..


ـ من هو؟..


ـ أعتقد أنه يخطط لبيعها في الريف مستفيدا من تخلف الوعي الصحي هناك ،


هو الذي حدثني بذلك ، وطلب مني أن أساعده..


ـ قل لنا من هو ونحن سنتحقق من الأمر..


ـ قد لا يكون تاجرا واحدا!..


صمت المدير برهة ثم قال:


ـ أخشى أنك من هواة العبث على الهاتف!..


قلت في إصرار:


ـ سيدي أنا لا أعبث ، أنا أستند على حقائق..


ـ اذكر لنا اسم التاجر إذن..


ـ لماذا لا تقومون بحملة شاملة للتحقق من صلاحية الأغذية الموجودة في السوق؟


إنه أمر يستحق الاهتمام..


ـ يبدو أنك تعبث.. إما أن تعطيني معلومات محددة تساعدني على سرعة التصرف ، أو تغلق السماعة وتنصرف..


حط علي الصمت فجأة ،


وأنا أتخيل ما ينتظرني على يد والد أحلام ، سيدرك أني وراء البلاغ وسينفذ تهديده..


سيلوث سمعتي ويهز مستقبلي.. وسيقلب الموازين..


سيجعل البريء مجرما والمجرم حملا ، ويرضي شهوته للانتقام..


وألمت بي لحظة من ضعف ، فكدت أهوي بالسماعة ،


لأكتم أنفاس هذه المكالمة التي ستفجر في حياتي المتاعب ،


لكن صوت المدير عاد يحثني على الكلام:


ـ من هو؟


قاومت ترددي وجبني بشدة:


ـ إنه عبد الغني الذهبي.. التاجر المعروف..


ـ يبدو لي إنك إنسان مغرِض.


وصلتني كلماته كالصفعة.. قلت غاضبا:


ـ أهكذا تقولون لمن يحذركم من كارثة قد تودي بأرواح المئات من الأطفال؟.


قال بنبرة الساخر:


ـ لا ، لا نقول هكذا لكل الناس ، لكني أقولها لك أنت بالذات ، لأنك إما مغرض فعلا ، أو عابث..


ـ لماذا تتحدث بهذه الثقة والإصرار؟.. ما الذي أوحى لك بأني مغرض أو عابث؟..


ـ لأن عبد الغني الذهبي إنسان نظيف.. رجل من ألمع رجالات البر والإحسان في هذه المدينة ،


ولا يمكن أن يقدم على عمل دنيء كالذي تتهمه فيه..


ضحكتُ.. وشر البلية ما يضحك!.. تذكرت رسما كريكاتيرياً لأنثى الشمبانزي


وهي تتربع على عرش ملكة جمال العالم..


يا زمن الزيف..


أطرف كذبة سمعتها في حياتي!...


عبد الغني الذهبي رجل بر وإحسان..


قال المدير وقد أحس بالسخرية التي وشت بها ضحكاتي:


ـ أنا لا أمزح... عبد الغني الذهبي الذي تتهمه بالغش


تبرع في الشهر الماضي فقط بخمسين ألف علبة من أغذية الأطفال ،


وقد وزعت على الأحياء الفقيرة بإشراف إحدى الجمعيات الخيرية..


يا له من ماكر!.. إنه يتلون كالحرباء ، ويتقن فن التمويه ، يعطي القليل ويأخذ الكثير..


يرتكب الموبقات في السر ، ويجهر بالحسنات..


يخدر الناس بسخاء كاذب ، ويمتص دماءهم بجشع فظيع ، وقلت في سخرية مريرة:


ـ لا تخدعك هذه الأريحية الطارئة يا سيدي ، فأنا أعرف منك بهذا الذئب.. معلوماتي تؤكد..


لم يمهلني حتى أكمل ، أغلق في وجهي السماعة ،


صوت النفاق بات أعلى!..


استطاع عبد الغني الذهبي أن يخدر الرأي العام بخمسين ألف علبة غذاء


لم يبق من عمرها الحقيقي سوى أيام ، والكمية الباقية؟..


الله أعلم كيف سوق ما بقي من الأغذية الفاسدة.. لعله زوَّر تاريخ استهلاكها ،


ولعله باعها كما هي مستفيدا من جهل الجمهور.. هذا الماكر.. إنه يوظف كل شيء لصالحه..


يستفيد من كل نقطة ضعف في هذا المجتمع المريض...


العشرة بالمئة التي كان ينوي أن يرشيني بها رشى بها مجتمعا بأكمله!..


وألفيت نفسي أمام مبنى جريدة الأيام.. لا.. لا..


هذه ليست جريدة الأيام! وعدت أتأمل اليافطة الأنيقة المعلقة على صدر البناء..


"مجلة علاء الدين للأطفال"!..


ولكنها كانت هنا.. هذا مبنى جريدة الأيام فمن أين أتت مجلة الأطفال؟!..


لا بد أن الأستاذ سعيد قد فعلها أخيرا ، وطلق الصحافة طلاقا بائنا لا رجعة فيه..


كنت أتمنى أن أجدك يا أستاذ سعيد.. عندي أشياء كثيرة كنت أريد أن أحدثك بها..


وخرجت من مبنى المجلة مجموعة من الأطفال.. كانوا ثلاثة ، وكان كل واحد منهم يحمل مجلة..


يتصفحها وهو يسير على مهل ، وكأن لهفته للقراءة لم تمهله حتى يصل إلى البيت فيقرأ مجلته بهدوء..


استيقظت في أعماقي طفولتي القديمة..


"أروني هذه المجلة يا أطفال"..


تقدم أحدهم ، ومد لي يده بالمجلة بينما وقف صديقاه على بعد خطوات منا ، يرقباني بدهشة..


قلبت المجلة بسرور.. كم تحركت هذه الصور الملونة في خيالنا ونحن صغار!..


كانت أحلام الطفولة المجنحة الطليقة تبعث الحياة في هذه الرسوم الجميلة ، وتحلق بنا في عالم مسحور!..


كم طرت في طفولتي على بساط الريح ، وكم تجولت مع السندباد في أسفاره الممتعة المثيرة ،


وكم تُقْت لمصاحبة سمير..


ـ "عمو ، عمو.." هل تعرف حل المسابقة؟


حضنت الطفل بنظرة ودودة وابتسمت:


ـ أين هي المسابقة؟..


خطف الطفل المجلة من يدي ، وراح يقلب صفحاتها ، حتى عثر على صفحة المسابقة..


ـ اقرأ هنا.. هذه هي المسابقة..


قرأت بصوت مسموع:


ـ "مدينة عربية يبدأ اسمها بحرف القاف ، فتحها عمر وحررها صلاح الدين ،


ثم احتلها اليهود عام 1967 ، وحرقوا مسجدها الشهير ، هل تعرفون ما هي؟".


تفكر الطفل قليلا ، ثم هتف في حماس:


ـ القدس..


انحنيت نحو الطفل فيما يشبه الركوع ، فتقابلنا وجها لوجه ، قلت مداعبا:


ـ ها أنت تعرف الحل ، فلماذا تريدني أن أساعدك؟


ابتسم الطفل وقال في حياء:


ـ ظنتها صعبة!..


ـ يجب أن تكون واثقا بنفسك.


ـ ما معنى "واثقا بنفسك"؟..


ضحكت ، تذكرت أن للأطفال لغتهم وقاموسهم الخاص ، حاولت أن أقرب له المعنى:


ـ أن تكون واثقا بنفسك يعني أن تعتقد بأنك قادر على الإجابة عن أسئلة المسابقات والدروس


دون أن تستعين بأحد ، حاول دائما أن تعتمد على نفسك يا صديقي فأنت ذكي كما أرى!..


لم يمهلني حتى أتم موعظتي.. بدا غير متحمس لسماع المزيد!..


انطلق نحو صديقيه بخفة ومرح ، وقال لهما بنبرة تشي بالفخر:


ـ لقد عرفت حل المسابقة ، إنه مدينة القدس..


نظر إليه أحدهما في شك ، وقال له وهو يشير إلي:


ـ هو الذي حلها لك!..


ضرب الطفل الأرض بقدمه الصغيرة ، وقال وقد أثاره هذا الاستخفاف بقدراته:


ـ بل أنا الذي حللتها بنفسي.. اسأله إذا أردت!..


أسرع الطفل المرتاب إلي مستجيبا للتحدي ، ثم سألني وهو يشير إلى صديقه في شك:


ـ "عمو ، عمو".. أصحيح أنه عرف حل المسابقة وحده..


أسعدني هذا الحوار الطفولي الطريف ، ولأول مرة منذ مدة طويلة شعرت بأني أبتسم من الداخل..


ابتسم ابتسامة لها جذور عميقة من الفرح..


الأطفال هم الفرح الباقي في هذا العالم..


قلت للطفل مطمئنا:


ـ نعم.. هو الذي حلَّ المسابقة.. حلها وحده ودون أن أساعده.


ثم أردفت مشجعا:


ـ إنها مسابقة سهلة ، تستطيعون حلها جميعا والفوز بجائزتها..


هنا تدخل الطفل الثالث.. قال لصاحبيه فجأة ، وقد اكتفى بمراقبة ما حدث:


ـ دعونا نعود إلى الأستاذ سعيد ، ونخبره بأنا قد عرفنا الحل..


الأستاذ سعيد؟


عدت بنظراتي إلى اليافطة المعلقة على صدر البناء ، هل حول الأستاذ سعيد جريدته إلى مجلة أطفال؟..


وأسرعت إلى الداخل..


كان الأستاذ سعيد جالسا بين مجموعة من الأطفال ، يحادثهم ويحادثونه ، يحاول الاقتراب من عالمهم ،


وفهم أفكارهم وأحلامهم..


وحانت منه التفاته إلي فألفاني لدى الباب ، أرقبه بإكبار!..


ـ أهلا.. أهلا بالدكتور صلاح..


وهب لاستقبالي ببشاشة وحرارة ، وقد أطلت من عينيه نظرة متفائلة ، لم أكن أراها فيما مضى..


قال وهو يشد علي يدي:


ـ منذ متى لم أرك!.. ما أخبارك هذه الأيام؟


همست كالحائر ، وأنا أجول بنظراتي الداهشة المستطلعة في وجوه الأطفال الذين ملؤوا الغرفة:


ـ أريد أن أفهم ما يجري!..


ـ ما كان يجب أن يجري منذ زمن بعيد!..


ـ ما زلت لا أفهم!..


ـ تعال ، تعال..


وقادني من يدي إلى مكتبه ، قال وهو يأخذ مكانه مقابلي:


ـ لأول مرة في حياتي أشعر بأني أمضي في الطريق الصحيح!..


ثم بعد إطراقة قصيرة:


ـ كان علي أن أفهم هذا منذ البداية.. المشكلة عند المنبع..


هناك يبدأ التلوث ومن هناك يجب أن يبدأ العلاج..


من العبث أن نحشد جهودنا عند المصب ونترك المنبع مكشوفا معرضا لجراثيم الجهل والتخلف والفساد..


فهمت ذلك متأخرا للأسف ، لكني لم أضيع الوقت..


تركت للكبار عالمهم الموبوء ، وهرعت إلى عالم الأطفال لأحميه من التلوث..


وغلبه الابتسام فأطرق كالحالم ، ثم تابع يقول:


ـ للعمل مع الأطفال متعة خاصة لا تدانيها متعة.. في عالمهم تجد الإنسان بفطرته الأولى..


تجده بخصاله البكر التي لم تلوثها بعد أمراض الكبار..


عندما بدأت مشروع مجلة الأطفال ، كنت أنوي أن أعلِّم الأطفال أشياء كثيرة ،


لكني ما إن بدأت معهم حتى شعرت بـأني أتعلم منهم..


تعلمت منهم الصدق.. الصراحة.. البراءة.. التفاؤل.. العدل..


اكتشفت أن الإنسان يعشق العدل بفطرته.. ويكره الظلم.. حاول أن تراقب الأطفال..


لا يرضى طفل أن تدلل أخاه أو صديقه أكثر منه!.. ينفر منك إن أنت ابتسمت لزميله ولم تبتسم له..


يكرهك إن أنت اعتديت على حقوقه ، أو خدشت شخصيته ، إنه إنسان كامل له كيانه الخاص ،


ولا يقبل منك إلا أن تعامله باحترام.


ثم ضحك الأستاذ سعيد.. ضحك وقال:


ـ لم يخطر لي يوما أني سأتجه إلى صحافة الأطفال!.. كنت أظن أن الكبار هم ميدان التغيير..


تصورت أني يمكن أن أغير بخطبة أو مقال..


تخيلت كلماتي الصادقة عصا سحرية يمكن أن تصلح الأوضاع الفاسدة بلمسة واحدة..


وبعد سنوات طويلة اكتشفت أني كنت أعبث.. ألعب.. أنفخ في قربة مثقوبة..


أثارت تفكيري مقولة خطيرة لعالم نفس مشهور:


"شخصية الإنسان تتشكل في السنوات الأولى من عمره".. وأخيرا اهتديت إلى الطريق..


عندما تثقف الأطفال وتربيهم ، فإنك تصنع أمة.. تصنع المستقبل المشرق الذي تحلم فيه..


واستدرك الأستاذ سعيد فجأة ، فقال:


ـ ما رأيك أن تعمل معي؟


ابتسمت كالحائر ، هذه المرة الثانية التي يدعوني فيها الأستاذ سعيد للعمل معه!..


ـ أستاذ سعيد.. لماذا تريدني أن أعمل معك؟


ـ لأنك تملك ما تقوله للناس..


ـ لا يكفي أن يجد الإنسان ما يقوله.. يجب أن يعرف كيف يقوله


ـ سأعلمك فن الكتابة.


ـ أنا يا سيدي طبيب ، ولا أريد أن أكون غير ذلك..


ـ الدكتورة أحلام أيضا طبيبة!..


أثارتني هذه الملاحظة.. لم أفهم ما يقصده!.. ما دخل الدكتورة أحلام في حديثنا؟..


قوست حاجبي في دهشة ، وجال في عيني سؤال!..


أردف الأستاذ سعيد وقد لمح الدهشة في نظراتي:


ـ طبيبة ورسامة..


ـ كيف عرفت؟..


ـ عرفت ماذا؟..


ـ أنها رسامة..


ـ من الصحف طبعا..


ـ الصحف؟!!..


ـ ألا تقرأ الصحف؟..


ماذا جاء في الصحف عن أحلام حتى عرف الأستاذ سعيد عنها أنها رسامة ؟..


تناول الأستاذ سعيد إحدى الصحف من فوق مكتبه ، وفتحها على الصفحة الثقافية ،


ثم دفع الصحيفة إلي قال:


ـ اقرأ هنا.. العمود الأيمن في الأسفل..


تناولت الجريدة بلهفة ، ورحت ألتهم السطور باهتمام..


"تدعو الطبيبة الفنانة الدكتورة أحلام عبد الغني الذهبي الجمهور الكريم إلى حضور معرضها الأول


الذي ستقيمه في قاعة المعارض في المركز الثقافي..


وسيتم افتتاح المعرض في الساعة السادسة من مساء اليوم ويستمر ثلاثة أيام"..


خفق قلبي للنبأ.. شعرت بشوق عارم إلى أحلام ، ها هي تخرج أخيرا من قوقعتها الحزينة..


قال الأستاذ سعيد في حيرة:


ـ كيف تكون زميلها في المستشفى ، ولا تعلم؟ ألم تدعك إلى معرضها؟..


همست بنبرة أسف:


ـ لقد استقالت منذ أسابيع..


ـ استقالت؟.. أو تفرغت للفن؟..


نكأ الحديث جروحي.. نهضت فجأة ، قلت:


ـ أستاذي.. أرجو أن تسمح لي بالانصراف.


نهض الأستاذ سعيد ، قد أثار دهشته هذا التغير الذي اعتراني!..


سدد إلي نظرة متفحصة وقال مستوضحا:


ـ أأنت على ما يرام؟..


ـ على ما يرام..


ـ لا تبدو كذلك!..


ـ سأزورك في وقت آخر..


ـ أنت تعاني من أزمة!..


لم أرد أن يتشعب بنا الحديث.. مددت له يدي مودعا.. قال وهو يحتفظ بيدي بين راحتيه:


ـ أتحبها؟


أطرقت كمن يعترف.. همست وأنا أسحب يدي برفق:


ـ سيأتي يوم نتحدث..


ـ ستجد بابي مفتوحا في كل وقت..

No comments:

Post a Comment