Sunday, March 7, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الفصل السادس عشر

ضحكت أحلام عندما حدثتها عن الحلم الذي شاهدته في الليلة السابقة ، وقالت:



ـ هذا الحلم يصلح لأن يكون مسرحية أو فلماً ، ينبه الناس إلى أخطار ممارساتهم الخطأ مع الأطفال..


قلت وأنا أمضي معها خارجَين من غرفة العمليات:


ـ يقولون بأن الأحلام مصدر من المصادر التي يعتمد عليها الكاتب في إثراء خياله..


هتفت أحلام في حماس وهي تقف قليلا:


ـ أما أنا فقد أثار حلمك في خيالي موضوع لوحة رائعة..


ثم تابعت وهي تمضي:


ـ سوف أذهب اليوم لأرسم الأطفال المجنحين وهم يحلقون فوق رؤوس البشر ، ويرفرفون بأجنحتهم كالعصافير.. وسأرسم القاضي الصغير وهو يقف فوق غيمة العدالة ، ويرمق البشر بنظرات صارمة فيها عتاب الطفولة وآلامها ممزوجة بالاتهام الصارخ للآباء الذين شوهوا أرواح الأبناء..


تذكرت الغموض الذي لاحظته في حديث الأستاذ سعيد عن والد أحلام ، قلت في تردد:


ـ ثمة سؤال يراودني ، لكني أشعر بالحرج في طرحه عليك..


تضاحكت وقالت:


ـ اسأل ما بدا لك..


ـ هل كان الأستاذ سعيد حقا صديقا لوالدك؟..


فاجأها السؤال ، أطرقت قليلا ، ثم قالت وهي تعبث بسماعتها الطبية المتدلية على صدرها كالقلادة:


ـ هل قال لك شيئا؟


ـ في الحقيقة لم يكن الوقت يتسع للحديث ، لكني لاحظت على وجهيكما وجوما غامضا ، عندما عرَّفتُ كلا منكما على الآخر!..


تنهدت وقالت:


ـ تلك قصة قديمة..


ـ يبدو لي أن الحديث في هذا الأمر لا يريحك!..


ـ صدقت..


ـ لا داعي إذن للخوض فيه..


ـ هل تقبل دعوتي إلى فنجان شاي؟..


ـ بكل سرور..


شعرت بأني قد تطفلت على أحلام ، واقتحمت بسؤالي حياتها الخاصة ، فندمت على تسرعي وفضولي ، وقدرت أن دعوتها لي ما هي إلا تهرب لبق من الجواب..


ووصلنا إلى مقصف العم درويش ، فرحب بنا في استراحته ، وسألنا عما نشتهي ، فطلبت أحلام منه أن يحضر لنا فنجانين من الشاي المعطر بنكهة النعناع ، ثم اختارت ركنا قريبا من النافذة ، وجلست ساهمة حزينة تكتسي نظراتها بكآبة عميقة..


جلست وأنا أكابد شعورا بالذنب ، فلم أكن أعلم أن سؤالي سيعكر صفوها إلى هذا الحد..


وأدركت أن في الأمر سرا مؤلما لا ينبغي لي نبشه ، ووجدت من واجبي أن أُخرج أحلام من الجو الذي وضعتها فيه ، قلت وأنا أرسل نظراتي من النافذة إلى حديقة المستشفى:


ـ الحديقة تزداد جمالا ، بعد أن خلع عليها الربيع فتنتَه..


نظرت أحلام إلى الحديقة ، وأطالت النظر ، وهي تتأمل قمم الأشجار وأحواض الزهور ، ثم لملمت نظراتها الكئيبة ، وألقتها نحوي متوهجة بالحزن ، وقالت بنبرة هادئة عميقة:


ـ منذ سبعة عشر عاما تقريبا ، انهارت عمارة سكنية فوق رؤوس ساكنيها ، وذهب ضحية لهذا الحادث ستة أطفال ، وتسع نسوة ورجل واحد ، هذا غير الذي أعيقوا أو تشوهوا.. من حسن الحظ أن العمارة لم تكن مكتظة بالسكان ، فقد سقطت أثناء النهار ، حيث كان معظم السكان خارجها ، منصرفين إلى شؤونهم في أماكن العمل والدارسة والتسوق.. لكنها كانت كارثة على كل حال..


هل تعرف من هو المقاول الذي قام ببناء هذه العمارة؟..


لم أجب ، ولم أفهم مناسبة هذا الحديث الغامض عن العمارة المنهارة!.. تركتها تتابع الحديث بانتظار معرفة ما ستصل إليه ، أطرقت أحلام ، وقالت تجيب عن سؤالها ، وهي تعبث بأصابعها كمن أربكه أمر:


ـ لقد كان والدي..


ثم صمتت برهة ، وداومت الإطراق كالخجلى ، ثم أرسلت زفرة طويلة وشت بما يعتمل في صدرها من ألم وهمٍّ وقالت:


ـ طبعا بدأ التحقيق القضائي في هذه القضية ، واتجهت أصابع الاتهام إلى المهندس المسؤول عن تنفيذ بناء العمارة ، لأنه كان قد وقع على عقد يلتزم فيه بمسؤوليته الكاملة عن أي خلل يحدث في البناء..


دافع المهندس عن نفسه بقوة ، ادعى بأن والدي هو الذي أمره بأن يقتصد ويوفر في استهلاك المواد الأولية..


رفض والدي ادعاء المهندس ، وذكره بأن العقد الذي وقع عليه معه ينص على أن تقدير كميات المواد اللازمة للبناء من مسؤولية المهندس ، وأن والدي لم يكن سوى ممول للمشروع ، يسدد الفواتير التي كان يحولها إليه..


وكان رد المهندس بأن العقد الذي وقع عليه كان مجرد خدعة ، وأنه كان مليئا بالشروط المغرية التي وضعها له والدي كطعم يجذبه للقبول بالشروط القاسية الأخرى ، وأن الأمور سارت في كثير من الأحيان على غير ما جاء في العقد ، وأن المهندس اضطر للسكوت عن هذه التجاوزات حتى لا يفقد الامتيازات التي حصل عليها من خلال العقد..


كذَّب والدي أقوال المهندس ، واتهمه بالمراوغة ، وقال له أمام هيئة المحكمة التي فصلت في الأمر: "لم تكن مضطرا للتوقيع على عقد تجد فيه شروطا ليست لصالحك"..


قال القاضي كلمته: المهندس مذنب ، ويستحق الإعدام..


سألت أحلام وأنا أتابع القصة باهتمام:


ـ ووالدك؟


قالت أحلام بنبرة غامضة توحي بأنها غير مقتنعة بما تقول:


ـ أثبت والدي أن دوره في عملية البناء كان مقصورا على التمويل والاستثمار ، وشهد المحاسب الخاص بمشروع العمارة إلى جانب والدي..


قال المحاسب بأن المهندس كان يشتري المواد الأولية اللازمة للمشروع ، ثم يقدم الفواتير لوالدي ليسددها ، ولم يكن والدي يتدخل في تحديد كميات هذه المواد ، ومع هذا لم ينْجُ والدي من المسؤولية ، فقد حكمت عليه المحكمة بتعويض المتضررين عن خسائرهم المادية..


وأقبل العم درويش يحمل الشاي ، فوضعه أمامنا ، وقال ببشاشته المعهودة:


ـ الشاي يا دكاترة..


شكرناه وعُدنا للحديث ، قالت أحلام:


ـ كان المهندس شابا حديث التخرج ، قليل الخبرة ، طموحا يبحث عن فرصة كبيرة تدرُّ عليه المال ، وتحرق أمامه المراحل نحو القمة التي يحلم بها ، فوجد فرصته في العرض الذي قدمه له والدي ، ووافق عليه بكل شروطه..


علَّقْتُ منكِرا:


ـ جميل أن يكون الإنسان طموحا ، متحمسا للوصول إلى أهدافه بسرعة ، لكن أن يتسلق على أشلاء الآخرين ، فهذه قمة الدناءة والأنانية والجشع!..


تلقت أحلام كلامي بتأثر واضح ، وكأني أعنيها به ، فلمعت عيناها برقاقة من الدمع ، وشعَّت نظراتها ببريق حزين ، همست كالحائر:


ـ دكتورة أحلام.. هل قلتُ كلاما أزعجك؟..


انتبهت أحلام لملاحظتي ، فابتسمت لتخفي الحزن الذي ألمَّ بها فجأة ، وقالت:


ـ أبدا.. كنت أفكر بكلامك فقط..


ـ وهل يحزنك التفكير بكلامي إلى هذا الحد؟.


ـ ما يحزنني أن كلامك لا ينطبق على المهندس فقط!..


صمتت أحلام برهة ، ثم قالت:


ـ لم يكن المهندس وحده الذي تسلق على أشلاء الآخرين..


ـ ما زلت لا أفهم..


ـ إذا عرفتَ بقية القصة ، فستفهم كل شيء..


ـ ألم تنتهِ القصة بإدانة المهندس؟..


تناولت أحلام رشفة من فنجانها ، ثم قالت:


ـ كادت القصة تطوى عند هذا الحد لولا أن فجَّرها الأستاذ سعيد الناشف من جديد..


ـ سعيد الناشف!..


ـ ألا تريد أن تعرف نوع العلاقة التي تربط والدي بالأستاذ سعيد؟..


أدركت أخيرا أن لقصة العمارة المنهارة علاقة بسؤالي ، وظننت أن أحلام تجيب عن السؤال مكرَهة ، قلت لها:


ـ لستُ متمسكا بالسؤال..


ـ لكني متمسكة بالإجابة..


ـ فهمت أن الحديث في هذا الموضوع لا يريحك!..


أمالت أحلام رأسها في هدوء حزين ، وعادت غِلالة الدمع تلمع في عينيها ، قالت وهي تزحزح فنجانها بحركة رتيبة وكأنها تداعبه:


ـ ثمة أحاديث كثيرة ، لا يرتاح الإنسان للخوض فيها ، لكن هذه الأحاديث لا ينبغي أن تبقى مكتومة في الصدر إلى ما لا نهاية.. يجب أن تخرج إلى الهواء قليلا ، لتنفث آثارها السامة خارج الجسد ، حتى لا تنفجر داخله فتدمره.. يجب أن نخرجها من خلف الضلوع ليسمعها إنسان قريب منا ، فيألم لألمنا ، ويشاركنا أحزاننا ، ويحمل معنا همنا الثقيل..


ثم رفعت أحلام إليَّ عينين مخضلتين بالدموع ، وهمست:


ـ هل ترضى أن تكون هذا الإنسان يا دكتور؟..


تأثرتُ لمرآها الحزين ، سارعت وقدمت لها منديلا تمسح به دموعها ، ثم قلت مواسيا:


ـ إني أسمعك.. أرسلي ما يؤرق صدرك ، واعلمي بأنه سيكون محفوظا بين جنبي صديق.. كلنا بحاجة إلى أن نبوح بما يرهق صدورنا ، وكلنا بحاجة لمن يسمعنا في لحظات الضيق..


جففت أحلام دموعها ، واستنشقت بعض الهواء الذي هبَّ من النافذة معطَّرا بشذا الياسمين ، ثم قالت:


ـ بعد انتهاء المحاكمة بأشهر طلع الأستاذ سعيد الناشف على الناس بمقال مثير.. قال في مقاله: إن المحاسب الذي شهد إلى جانب والدي لم يقل الحقيقة ، وأنه قد زوَّر شهادته أمام المحكمة ، بعد أن كان قد شهد أمام الشرطة بأقوال مختلفة تدين والدي ، وتثبت مسؤوليته المباشرة عن حادث سقوط العمارة ، وتابع الأستاذ سعيد سلسلة اتهاماته لوالدي ، فادعى أن الشهادة الحقيقة التي أدلى به المحاسب قد سرقت من ملفات التحقيق ، وأن المحاسب قد اعترف في شهادته الأولى بأنه سمع والدي أكثر من مرة وهو يطالب المهندس بعدم الإسراف في تسليح البناء ، والاقتصاد في استهلاك المواد الأولية ، حتى يقوم البناء بأقل تكلفة ، ويباع بأربح ثمن ، ما جعل المهندس يبالغ بالاقتصاد والتوفير إرضاء لوالدي ، ويحرم البناء من الحد الأدنى من التسليح الذي يساعده على الصمود ومقاومة السقوط..


ثم أكد الأستاذ سعيد أن المحاسب قد هاجر إلى الولايات المتحدة ، وأنه يقوم هناك بمتابعة دراسته العليا في إحدى الجامعات الأمريكية ، واستدل من هذه المعلومات بأن المحاسب ما كان ليستطيع متابعة دراسته العليا وتكاليفها الباهظة ، لولا أن قبض ثمنا غاليا لسكوته!..


ـ وماذا كان رد والدك على كل هذه الاتهامات؟


ندَّ عني هذا السؤال دون إرادة مني ، وأنا أصغي إليها باهتمام.. قالت أحلام:


ـ لم يسكت والدي طبعا على اتهامات الأستاذ سعيد ، فاتهمه بالطعن والقذف ، وطلب من القضاء أن ينصفه ، ونشبت بين الطرفين معركة قضائية حامية ، كسبها والدي في النهاية ، وتم إيقاف جريدة الأيام التي يملكها الأستاذ سعيد لمدة ثلاثة أشهر ، لأنها تنشر أنباء كاذبة تمس الجمهور ، وتستغل صفحاتها للتشهير بالناس..


قلت لأحلام:


ـ إدانة المحكمة للأستاذ سعيد الناشف تعني أن والدك بريء من كل ما نسب إليه..


قالت أحلام بلهجة غاضبة:


ـ هذا ما يبدو للناس..


ـ هذا ما يبدو للناس؟!..


هكذا قلتُ في دهشة ، بعد أن أثارت كلماتها فضولي!.. هل يبدو لها الأمر على غير الوجه الذي يبدو فيه للناس؟!.. وحِرْت في فهم المعنى الغامض الذي يستتر خلف كلماتها ، وانتظرت أن تستأنف أحلام بوحها لتُسكت فضولي ، لكنها صمتت ، وعادت إلى فنجانها تهدهده ، قالت وهي تمعن النظر في الفنجان الذي برد قبل أن تكمله:


ـ هل تعلم ما أقسى شيء في الوجود؟


ابتسمت في مرارة وقلت:


ـ في هذا العالم ألوان من القسوة ، فأيها تريدين؟


اغتسلت عيناها ثانية بالدمع ، فتوهجت خضرتهما الصافية بأشعة حزينة تحرك قلبي ، وخفق إشفاقا على هذه الفتاة التي تقطر حزنا وكآبة ، قالت أحلام وهي تمسح دموعها المنثالة فوق خديها بهدوء:


ـ أقسى ما في الوجود أن تصدم فيمن تحب.. أن ترسم في خيالك صورة مشرقة لإنسان عزيز ، ثم يأتي الواقع القذر ليلطخ تلك الصورة الزاهية الجميلة بالأوحال.. فما بالك إذا كان هذا الإنسان العزيز عليك هو قدوتك ومثالك؟.. ما بالك إذا كان هذا الإنسان أباك؟..


قلت وأنا أشفق عليها من آلام الاعتراف:


ـ دكتورة أحلام.. لعلك متعبة!..


قالت في توسل حازم:


ـ أرجوك.. دعني أكمل.. منذ زمن بعيد وأنا أبحث عن إنسان أبوح له بسري.. أريق أمامه ما في صدري.. أتكلم إليه بصدق وصراحة.. فكن هذا الإنسان ، ولو للحظة ، ثم انس ما سمعته مني أو احتفظ به ، لا فرق..


همست مستسلما:


ـ تفضلي وأكملي.. إني أحترم بوحك هذا ، وأصغي إليه..


أخذت أحلام نفسا عميقا ، ثم أرسلت زفرة ملتهبة ، وقالت:


ـ عندما حدثت كارثة العمارة المنهارة كنتُ فتاة صغيرة لا أكترث بمثل هذه الأحداث ، ولا ألقي لها بالا ، وعندما كبرت ونضج وعيي وجدتني أحاول فهم ما حدث..


روت لي أمي قصة العمارة ، وما انتهت إليه المحاكمات بشأنها ، وحدثتني بما كان من الأستاذ سعيد ، وأقنعتني بأن والدي كان مظلوما في هذه القضية ، وأن الصحفي سعيد الناشف كان مغرضا في اتهاماته له ، وعلمتني أن قدر الناجحين والمشهورين أمثال أبي أن يجدوا في طريقهم الحاسدين والحاقدين والأعداء..


وبقيت هذه القصة بكل تفاصيلها هاجعة في ذاكرتي ، تستيقظ بين الحين والحين في مناسبات عابرة ، ثم تعود إلى أعماق الذاكرة ، وتغيب فيها كحدث عادي كان ومضى ، ولم يتطرق إليَّ الشك يوما بأن والدي نظيف بريء من كل ما ألصقه به الآخرون من اتهامات ، حتى قامت حرب حزيران ، واكتشفت حقيقة أبي!..


ستسألني: ما علاقة حرب حزيران باكتشاف حقيقة أبي؟!..


عندما قامت إسرائيل بعدوانها الغادر علينا عام 1967م ، كان والدي يعقد صفقة مهمة في اليابان ، وكنا نعيش هنا في ذعر ، خوفا من القنابل الإسرائيلية التي كانت الطائرات العدوة تلقيها على الأحياء السكنية بوحشية..


قلت لأحلام وقد نالت ذكرى الهزيمة من هدوئي ، وأورثتني ألما وحسرة:


ـ أنت تذكرينني الآن بأيام سوداء ، امتزج فيها الألم بالصدمة والذل والهزيمة..


تابعت أحلام بنبرة حزينة:


ـ اتصل بنا والدي أثناء الحرب ليطمئن على أحوالنا ، فتحدثت إليه ، وأخبرته بأن إسرائيل تقصف السكان الآمنين ، وتدمر البيوت فوق ساكنيها ، ولا تميز بين منزل أو مدرسة أو مستشفى.. تريد لو تستأصلنا بقذائفها الحاقدة ، وتمحونا عن الوجود..


هدَّأ والدي من روعي ، ونصحنا أن نحتاط جيدا من الغارات الإسرائيلية ، فلا نغادر الملجأ إلا للضرورة القصوى ، وطلب مني أن أفتح خزينته ، وأخرج كل ما فيها من أوراق وأموال ، وأحتفظ بها معي ، وأخفيها عن العيون جيدا ، فقد خاف والدي آنذاك أن تدمر قذائف الأعداء بيتنا ، وتتلف أوراقه الهامة التي تحوي على عقود ، وأوراق ملكية ، وسندات وإيصالات وغير ذلك من الوثائق الهامة إضافة إلى مبلغ كبير كان يحتفظ به والدي في خزنته للطوارئ العاجلة.. ثم ذكر لي الرقم السري الذي اختاره مفتاحا لخزنته ، وحذرني من أن تقع أوراقه في يد مخلوق ، حتى لو كان أمي..


ونفذت ما طلبه والدي بالحرف ، فجمعت أوراقه ونقوده في حقيبة ، وحفظتها في مكان أمين من الملجأ ، وأخفيت الأمر عن والدتي ، حتى لا أكون سببا في شجار من الشجارات العنيفة التي كانت تندلع بين أمي وأبي حول مصالحهما وأعمالهما المشتركة..


وعشنا في الملجأ الفسيح الذي بناه أبي تحت منزلنا أياما قاسية.. نخوض في أخبار الحرب ، ونتلقى أنباء الهزائم بألم وذهول كمن يتلقى أنباء مصرع أفراد أسرته واحدا بعد واحد..


وابتليت بالأرق والسهاد ، فلم أعد أذوق للنوم طعما ، وجثمت الآلام على صدري كجبل من الشوك ، ووجدت نفسي ذات ليلة في حالة عارمة من اليأس والألم والملل والضجر والضيق.. بحثت عمن يبدد وحشتي بحديث أو حوار ، فألفيت الجميع قد ناموا بعد أن أرهقهم السهر الطويل والقلق المرهق.. فتحت المذياع ، فخدشت سمعي أخبار الهزيمة ، واعتصرت فؤادي الأغاني الحماسية التي تتحدث عن الانتصار في لحظات الانهيار ، وتبشر بالمد المتعاظم في عصر الانحسار.. أغلقت المذياع بعصبية وحنق ، ولولا إشفاقي على النائمين ، لقذفت به على الأرض ، وحولته إلى حطام..


وخطر لي أن أتفقد أوراق والدي ونقوده ، فمضيت إلى المكان الأمين الذي أخفيتها فيه ، ورحت أتسلى بقراءة الأوراق ، مدفوعة بفضول عادي لمعرفة أملاك أبي وحدود ثرائه..


وسألتني أحلام فجأة:


ـ هل كان تصرفي خطأً؟..


ـ لا أعتقد..


ـ كان فضولي بريئا من أية نية سيئة..


ـ أتفهَّم ذلك تماما..


ـ ليتني لم أفعل..


ـ لماذا؟


أطرقت أحلام وقالت:


ـ لأني عثرت بين أوراق والدي على شهادة المحاسب التي اتهم الأستاذ سعيد والدي بسرقتها من ملفات الشرطة!..


وفهمتُ كل شيء ، أدركت كم كانت صدمة أحلام بحقيقة أبيها قاسية وأليمة ، سألتها بلهجة مترددة:


ـ وماذا جاء فيها؟


قالت أحلام ، وقد توهج وجهها بالحياء ، خجلا مما أتاه والدها من آثام:


ـ اعترف المحاسب في شهادته بأن والدي كان وراء شح المواد الأولية التي رصدت للمشروع ، وأنه طلب من المهندس المنفذ أكثر من مرة ، ألا يسرف في تسليح البناء ، وروى المحاسب أنه سمع والدي يقول للمهندس بالحرف: "أجدادنا كانوا يعيشون في بيوت من الطين ، فلم تسقط عليهم ، لا أدري لماذا يجب أن نحول بيوتنا إلى قلاع؟!".. , أضاف المحاسب في شهادته بأن المهندس صارحه ذات مرة بأنه غير مرتاح للطريقة التي تسير بها الأمور ، لكنه مضطر للاستمرار في العمل حتى يجمع المهر الباهظ ، وثمن الشقة والسيارة التي وضعتها أسرة فتاته شروطا صارمة لا بد منها للرضاء به كزوج لابنتهم المدللة.


وصمتت أحلام مستسلمة لتيار متدفق من الدمع ، فرجوتها أن تتمالك أعصابها خشية أن يراها أحد على هذه الصورة ، فيفهم الأمر على غير حقيقته..


و لاحظ العم درويش بكاء أحلام ، فخفَّ إليها بلهفة الأب الحاني ، وهو يحمل كأسا من الماء ، قال العم درويش وهو يميل نحوها برفق:


ـ خيرا يا ابنتي ، لماذا كل هذه الدموع؟


جففت أحلام دموعها ، وقالت:


ـ لا شيء يا عم درويش ، اطمئن..


ـ كيف أطمئن وأنا أراك دامعة حزينة؟..


وأشرت للعم درويش أن اترك الأمر لي ، فانصرف بهدوء ، ولم يلبث أن عاد وهو يحمل كأسا من الليمون ، فوضعه أمام أحلام ، ثم مضى في صمت ، وجلس بعيدا يرمقنا في قلق ، قلت لأحلام:


ـ أرجو أن تملكي دموعك بعد الآن ، نحن في مجتمع يحب الثرثرة ، ويصغي إليها ، ولن يفهم أحد حقيقة دموعك الطاهرة..


لمست أحلام في كلامي حرصا وحنانا ، فأومأت شاكرة ، وجعلت تلم شتات مشاعرها ، وتستعيد هدوءها ، تماسكت وقالت بعد صمت قصير:


ـ منذ العام المشؤوم.. عام الهزيمة ، وأنا أحمل هذا السر في صدري.. لشد ما عذبتني الحقيقة.. فقدت احترامي لوالدي.. فقدت إيماني به.. انكسر داخلي كتمثال من الزجاج ، وتحول إلى شظايا حادة ، تمزقني وتدميني من الداخل.. حاولت أن أنسى.. ضميري رفض أن يسكت.. ظل يلسعني بسياط اللوم والتعنيف.. يهتف بي أن أفعل شيئا.. أي شيء ، لكني ضعفت.. انهزمت.. عشت أيامي التالية كريشة تائهة.. شعرت بأني غصن مكسور.. أحسست بأني لقيطة.. نعم ، لقيطة.. كلقيطتك التي شغلتنا به منذ أسابيع.. عندما كنت أعالج تلك الطفلة كنت أحسدها لأنها أسعد مني حظا ، فهي لم تعرف أباها ، وقد لا تعرفه أبدا ، أما أنا فأعرف من هو أبي وأعرف ما حقيقته.. كان في نظري ملاكا ثم هوى.. هوى كما تهوي الشهب المضيئة ، وتنطفئ في قاع الأرض..


وسألتُ أحلام:


ـ ألم تفكري بمواجهته بالحقيقة؟


ـ لم أجرؤ..


ـ إلى متى ستسكتين؟..


ـ لا أدري..


ـ معك حق ، إنه أبوك على كل حال..


ـ يبدو أن هناك فرقا بين ما يجب أن يكون ، وما يمكن أن يكون..


ثم تساءلت أحلام:


ـ لماذا لم يعد الناس يطيقون البراءة؟..


ابتسمت كالساخر ، وقلت:


ـ لأنها شيء غير محسوس.. شيء لا يؤكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يصرف ولا يوضع في البنك!.. لقد آمن الناس بالمحسوس وكفروا بالمعاني..


شعورهم بالحياة أمسى حسيا غليظا.. القيم الجميلة لم تعد تبعث الأشواق في نفوسهم.. إنها العودة إلى البدائية الأولى عندما كنت مشاعر الناس بليدة جامدة قاسية كالأدوات الحجرية التي كانوا يستعملونها..


وأرسل جهاز الإنذار الذي تحمله أحلام عدة إشارات ، فنهضت لتلبي النداء ، قلت لها قبل أن تمضي:


ـ اغسلي وجهك قبل أن تذهبي ، فالحزن ما زال عالقا فيه..


ابتسمت ، ومضت ، وأنا أشيعها بنظرات ملؤها الحب والإكبار..


هذه هي الفتاة التي تستحق أن يموت من أجلها الرجال ، ويقطعوا في سبيلها مفازات المستحيل!..


No comments:

Post a Comment