Friday, March 12, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الثامن و العشرون

اندفعت خلف نورا بقوة ، لاحقتها من شارع إلى شارع ، ومن حارة إلى حارة ، لكنها أفلتت مني ،



ضاعت خلف جدران المدينة ، ابتلعتها الأزقة الضيقة وغيبتها في جوفها المتخم بالأسرار ،


ووقفت عند مدخل أحد الأزقة حائرا يائسا مثقلا بالخيبة!.. كان الزقاق مقفرا وممتدا ، تدل نهايته المضيئة التي تلوح خلف أعشاش العتمة على أنه يفضي إلى شارع مزدحم ،


وترامى إلى سمعي صوت مذيع أجش يتلو نشرة أخبار ،


وقد اختلطت أخباره بجلبة أطفال يمرحون قبل أن يأووا إلى الفراش ،


أين ذهبتِ أيتها الظبية الشاردة التي امتزج الخوف والشك بدمها ،


فأصبحت تنفر من رائحة البشر ، وتخشى أطياف الرجال!...


وهويت على أحد الجدران بقبضة مشحونة بالغيظ.. أنت ثانية أيها الذئب الأنيق!..


أيها العاتي الذي يستوطن في حياتنا كالداء.. متى ترحل؟


متى يسقط عن وجهك القناع؟


واستبدت بي الحسرة ، لأني لم أستطع أن أعرف بقية المأساة التي عاشتها نورا وهي تحارب في المدينة وحيدة ،


تقاوم الذئاب والوحوش ، وتدافع عن نفسها بشجاعة المحارب الذي تكالب عليه الأعداء ،


ليكشروا مقاومته ، ويطفئوا عنفوانه ، ماذا كان علي لو اعتصمت بالصمت؟


لكن ما أدراني بأن ذكر عبد الغني الذهبي سيفزعها؟


أنت منهم! كلكم ذئاب!..


لكأنها تتحدث عن عصابة!!..


عن جيش من الوحوش!..


ترى؟.. ما علاقة عبد الغني الذهبي بكل هذا؟


أيمكن أن يكون هو الـ؟!.. عبد الغني الذهبي للمرة الثالثة بعد ما لا أدري من المرات ، يقف أمامي بطلا من أبطال الشر والقسوة على مسرح الواقع المريض..


وانفجر عبد الغني الذهبي داخلي كالسرطان الذي لا يزول إلا بالجراحة ،


استقر في أعماقي وجعا نابضا بالألم ، كالناسور الحاد ، وسولت لي نفسي باللجوء إلى العنف لأول مرة!.


إنه رجل يستحق القتل في كل الشرائع ، وما اكتشفته فيه من المساوئ يؤهله للموت خنقا أو رميا بالرصاص!... فكيف لو استطعت أن أحصي ما خفي من جرائمه ومكائده وآثامه؟..


إذن ، لاستحق القتل ألف مرة ومرة...


إذا كانت ابنته قد أدانته ، واكتشفت ظلمه وإجرامه وبشاعته ، فماذا بقي بعد؟..


إنه مجرم محترف ، وطاغية مستبد ، يستخف بأرواح الناس ومشاعرهم ،


ويستغل نفوذه وماله لتركيع البشر ، وإرغامهم على التنحي من طريقة ، إنه يمضي في الحياة كالديناصورات المتوحشة ،


كالبلدوزر الغبي الذي يدمر كل ما يقف في طريقه فيحوله إلى حطام!...


وركبتني فكرة مجنونة بقتل عبد الغني الذهبي!..


نعم ، قتله ، وإراحة الناس من آثامه وشروره..


لا يفل الحديد إلا الحديد ، والجزاء من جنس العمل ،


لابد من الردع في معالجة هذا الثعبان ، إنه عضو فاسد ،


ولابد له من البتر ، قبل أن يسري سمه الزعاف إلى أعضاء جديدة فيقتلها ،


الحق والعدل يقولان بأن القاتل يقتل ، وعبد الغني قاتل ، قتل الرجال والنساء والأطفال ، وتربع فوق جماجمهم...


وأفقت من أفكاري على هدير العقل وهو ينبثق في أغواري المدلهمة ، فيزجرني ويثنيني..


ـ تقتله؟!.. تقتله أيها المجنون؟!.. هذا ليس تصرفا حضاريا يليق بطبيب!...


ـ نعم إني أعترف.. العنف أسلوب همجي أرعن لا يليق بمثقف مثلي ، لكني إنسان قبل كل شيء!..


إنسان له عواطف ومشاعره ، لا يستطيع أن يقف ساكتا يشارك المجرم في جريمته بصمته وسكوته..


ـ الجأ إلى القانون..


ـ القانون!.. القانون حباله طويلة ،


وعبد الغني مجرم ذكي لا يترك خلفه أثرا يدل عليه ،


سيمر وقت طويل قبل أن تكتمل حلقة الاتهام حول رقبته الناعمة ،


الدليل الصارخ الوحيد بيد أحلام ، وأحلام ابنته ، مهما كان فهي ابنته ،


وليس من السهل أن تقف في وجه أبيها ،


إنها إنسانة من لحم ودم ، والإنسان لا يضحي بأبيه عادة مهما كان السبب قاهرا وقويا..


ـ إذا قتلته إذن ، فستخسر أحلام..


هل تريد أن تخسر أحلام؟..


ـ أحلام؟!.. سأخسرها على كل حال ، إنه يقف بيني وبينها بقسوة ،


ويلوح لي بالفضيحة التي لفقها وحبكها حولي..


حتى لو تحديته و بُحت لأحلام بكل ما كان ،


فلن يزداد إلا إصرارا وعنادا ، وقد يلجأ إلى أساليب جديدة أكثر دناءة وغدرا من الأسلوب الذي اتبعه لإبعادي عن ابنته..


إنه يقف بيننا كسور الصين ، وسيقف بيننا حيا وميتا ، فلأقتله وأريح العالم من شره..


ـ ستساق إلى السجن ، وتحاكم كقاتل ، وتنتهي مداناً ،


ألم تفكر في هذه النهاية يا دكتور؟


يجب أن تعترف بأنك تمضي باتجاه خطأ..


ـ لن أعترف ، ولن أرجع ، سأقضي عليه دون أن أترك خلفي أثرا يدل علي تماما..


بنفس الحرص والذكاء الذي يقضي بهما عبد الغني على ضحاياه..


رصاصة في الظلام..


رصاصة واحدة كفيلة بتفجير رأسه المحتقن بقيح المكر والخبث والخداع..


رصاصة واحدة تكفي لإيقاف كل هذه الجرائم والمآسي.. رصاصة واحدة وينتهي الظالم ، فينتصف المظلوم وتهدأ أرواح الضحايا..


ـ لكنه ليس ظالما واحدا!.. إنهم ظلاّم كثيرون ، فهل تكفي رصاصتك لهم جميعا؟..


ـ آه.. غلبتني أيها العقل.. رصاصة واحدة لا تكفي..


ولا ألف رصاصة..


إذا مات عبد الغني.. فلن يموت معه الباقون..


بل سيمكثون كالوباء.. يعيثون ويفسدون ويظلمون ويقتلون..


وسيحتاطون للرصاصة العادلة..


سيغطون وجوههم بأقنعة جديدة أكثر غموضا وجمالا من قناع الذهبي ،


قد تجدهم في ثياب المصلحين ، وقد تراهم في محاريب الصالحين ، قد يرتدون أسمال الفقراء الزاهدين ،


وقد يستشهدون بآيات من الذكر الحكيم..


نعم.. الظالمون الذين أخشاهم ليسوا جميعا واضحين ظاهرين!..


والأخطر من الظالمين.. المهندس الذي تواطأ مع عبد الغني على الغش في كميات المواد اللازمة لبناء العمارة ،


والمحاسب الذي زور شهادته من أجل تحقيق طموحاته في الشهرة والثراء..


والخائن الذي اشتراه عبد الغني ليسرق شهادة المحاسب من ملفات التحقيق ،


والمصور الذي استخدمه عبد الغني ليلتقط لي تلك الصورة المخجلة.. مقابل مبلغ من المال ،


والغانية الداعرة التي مثلت علي دورها بإتقان ، وقبضت ثمنه خاتما من الذهب أو عقدا من اللؤلؤ..


نعم.. الظالمون كثيرون ، والأرض بحاجة إلى طوفان جديد كطوفان نوح ،


يطهرها من الظلم والفساد ويعقم العالم من لوثة المادة ، التي أحالت القلوب إلى حجارة ،


صدقت أيها العقل.. عبد الغني ليس هو المشكلة..


المشكلة في الضمير الغائب ، والتربية الفاسدة ، والحب المفقود.. المشكلة في الوثنية الجديدة التي تجتاحنا كالوباء.. في العبودية للدرهم والدينار..


المال هو الذي منح عبد الغني قوته وسطوته وقدرته على الظلم ،


وعبدة المال من أصحاب النفوس الخائرة الضعيفة هم الأيادي التي يبطش بها عبد الغني وأمثاله..


لقد كثر في حياتنا المرتزقة والانتهازيون ، وارتفع صوت الذهب فأعمى بريقه العيون..


وعدت أدراجي إلى المركز الثقافي يحدوني الحنين إلى أحلام..


كنت في حاجة إليها لتغسلني من أحزاني ،


وتمنحني فرحا جيدا يبدد بعض الشجن الذي زرعته في نفسي مأساة نورا المسكينة ،


ومضيت إلى قاعة المعارض بخطوات لهفى ، وما إن دلفت إليها حتى التقت عيناي بعيني الذئب الأنيق عبد الغني..


هذا الرجل البغيض يطاردني في الحلم واليقظة!..


يقف في طريقي أنى ذهبت!..


متى تسقط أوراقك أيها الخريف؟!..


No comments:

Post a Comment