Friday, March 12, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الرابع الثلاثون

ألجم الموقف المثير لسان القاضي ، فتجمدت نظراته فوق أحلام..



هذه الفتاة العظيمة التي قلبت قوانين الأرض ، وسجلت باعترافاتها المتفجرة ،


قصة نادرة لم يسبق أن شهدت مثلها أروقة المحاكم!..


واهتزت القلوب اعجابا بهذه الفتاة الطاهرة النبيلة ، التي ارتفعت فوق روابط الدم والنسب ،


وتوهجت بالحقيقة الساطعة كنجم ملتهب يضيء ظلمة الكون العميقة..


واحتضنتُ أحلام بنظرات ولهى ، يشعشع منها الوجد..


كانت تقف مطرقة كالخجلى ، وقد أمالت رأسها الجميل في حياء دامع ،


وكأنها ممثلة متواضعة أدت دور البطولة في مسرحية صفق لها العالم من أقصاه إلى أقصاه!!..


أيتها الفتاة الوادعة النقية.. متى يأذن القدر ، فتنهار بيننا الحواجز والسدود ،


وتلأم الفرحة قلبينا العاثرين ، لا أستطيع أن أتصور العالم دون أحلام!..


لكأنها روحه التي تخلع عليه الحياة..


لكأنها ماؤها وهواؤه وأزهاره..


لكأنها الحق والخير والجمال قد اتحدوا واستحالوا امرأة!..


لكأنها نساء العالم قد جمعن أجمل ما فيهن في باقة واحدة ، وسمينها أحلام..


وجعلت أنوس بنظراتي بين الابنة وأبيها ، فحرت في هذه الزهرة البرية الرقيقة ،


كيف نبتت على غصن من الشوك السامّ ؟!..


كان عبد الغني الذهبي يقف ساهما ذاهلا غارقا في لجة من السكون ،


وكأنه تمثال من الشمع ألقاه صانعه وسط هذا الجمهور ليعرف رأيه فيما نحت ،


وتشابكت الأنظار حوله ناطقة بالإدانة ، صارخة بالإنكار ، فياضة بالاحتقار..


ورمقه القاضي كالمفجوع ، ثم انتظره ريثما أفاق من ذهلته العميقة.


وبدأت الحياة تعود إلى أوصاله المتجمدة ، فأسبل جفنيه كمن يحاول هضم ما حدث ، ثم تنفس بعمق ،


فانتزع نفسه من إسار الصدمة ، وجعل يجر قدميه باتجاه ابنته!..


وحبس الحاضرون أنفاسهم ، وهم يرون عبد الغني يترنح في مشيته ،


وقد أطلت من عينيه نظرة وحشية مجنونة أخذت تتقد وتتقد ، كلما اقترب خطوة من ابنته ،


وتسارعت خطواته فاندفع نحو أحلام كثور ذبيح قد احتدم حبه للحياة في القطرات الأخيرة من دمه ،


وسرى في القاعة صمت وترقب ، وتحفز أكثر من واحد لإيقافه ،


وداهم الحاضرين قلق عاصف ، وهم يرون يد عبد الغني ترتفع عاليا في الهواء ، وتهوي على وجه ابنته ،


لكن القلوب الواجفة لم تلبث أن هدأت عندما تسللت قوة مجهولة إلى يد الأب العاتي ،


وأوقفتها قبل أن تمس أحلام بسوء!..


طوى عبد الغني أصابعه المرتعشة الآثمة ، ثم ضمها على صدره في ندم ،


وهو يرنو إلى ابنته بطرف دامع ، ولم يلبث أن هوى على الأرض ، وخر عند قدميها ، وهو يبكي وينتحب ،


وانحنت أحلام نحو أبيها المنهار ، لتنتشله من الأرض ،


فتناول يدها الممدوة إليه ، وأغرقها بالقبلات والدموع ، وكأنه يستجدي منها العفو والرضا ،


لكن أحلام سحبت يدها في حياء ، وانهارت فوق أبيها وهي تنشج بمرارة..


واستدر الموقف المؤثر دموع الحاضرين ،


فأجهشت امرأة بصوت مرتفع ،


وحوقل رجل يقف في أقصى الصفوف ،


وخرج القاضي عن وجومه وصمته ،


فنزل من منصته العالية ، وتقدم من أحلام فأنهضها في حنو واحترام ،


ثم أجلسها على كرسي قريب ، وطلب لها كأس ماء..


لبث عبد الغني راكعا برهة ، وهو ينتحب ،


وبعد أن أفرغ شحنات الندم التي احتقن بها صدره ،


حاول أن ينتشل نفسه من الأرض لكن قواه الخائرة خانته ، فسقط..


فتقدم منه أحدهم ، ومد له يد العون ، فرفضها ، ثم استجمع قواه الخائرة ونهض ،


ووقف أمام القاضي مخضل الوجه ، كسير النظرات ، مائل البنية ،


وكأنه جبل شاهق مادت به الأرض ، وهشم الزلزال هامته..


قال عبد الغني بنبرة غابت منها تلك الجعجعة الفارغة التي كانت تملؤها :


ـ سيدي القاضي.. أعترف سلفا بكل ما أوردته ابنتي أحلام من حقائق..


أعترف بأني غششت وسرقت وقتلت..


أعترف بأني تلاعبت بالقانون ، وخدعت القضاء ، وضللته في كل مرة ،


أعترف بأني تصرفت في هذا العالم كالوحوش الشاردة في أعماق الغابات ،


وتسلقت على أشلاء الآخرين حتى وصلت إلى ما أنا فيه من شهرة وجاه وثراء..


وها هي النتيجة..


ملكت كل ما يحلم الإنسان بامتلاكه ، وخسرت ابنتي الوحيدة ،


التي لم أحب في هذا الوجود إنسانا غيرها..


خسرت احترامها لي ، وخسرت اعترافها بي كأب وإنسان ، فخسرت بذلك كل شيء


لكن ، اسمح لي أيها القاضي أن أروي لك القصة من أولها ، فلكل قصة بداية ،


ولبدايتي قصة يجب أن تروى ، ويجب أن يصغي إليها الناس..


أنا يا سيدي لست شيطانا ، ولست كتلة خالصة من الشر ، كما أبدو لكم الآن..


الإنسان يا سيدي لا يولد شريرا ، والشر ليس أصيلا فينا..


نحن الذين نزرع الشر ، ونحن الذين نحصده..


وقد علمتني الحياة أن الظلم هو التربة العفنة التي يضرب الشر فيها جذوره ، ويطرح ثماره المسمومة..


أعرف أن أسماعكم تأنف أن تصغي لحكمة يلقيها عليكم رجل فاسد ، لكنها الحقيقة..


الحقيقة المرة التي تجرعتها قطرة ، قطرة..


وأنا أشعر بأقدام الظلم والشقاء تدوسني وتسحقني بقسوة..


عبد الغني الذي تعرفونه الآن ـ أيها السادة ـ بدأ حياته ماسح أحذية..


ينحني فوق الأقدام فينظفها ، ويلمعها..


يأكل الخبز ممزوجا بالأصبغة والأوساخ ،


ثم يأوي إلى غرفة حقيرة ، فيقضي الليل فوق حصيرة مهترئة ، وهو يحلم..


يحلم بحياة أخرى خالية من الذل والشقاء..


يحلم بالثروة الواسعة والقصر المنيف..


يحلم بالعز والجاه والرفاء..


وعندما كان يشرق عليه فجر اليوم التالي ، كان هذا الفتى الكادح الطموح ، يحمل صندوقه الخشبي ،


ويمضي به إلى الشوارع والساحات ، ليعرض خدماته على الناس مقابل قروش قليلة..


عبد الغني الذهبي ـ أيها السادة ـ نشأ يتيما ، وعاش محروما..


عاش حياة باردة لا دفء فيها ، أو حنان..


تنكر له الأقرباء ، وبتروه من حياتهم كما يبتر الإنسان قلامة أظفاره ، وقذفوه في العراء ،


ليلتقط رزقه كما تلتقط القطط والفئران..


من أكوام القمامة ، ومخلفات المطاعم ، وصدقات المحسنين..


نعم.. عشت طفولة مرة كالعلقم ، وفتوة بائسة كالجحيم ، وشبابا ضائعا ذليلا لا أطيق ذكراه..


وركبني هاجس مجنون بأن الحياة لا معنى لها بلا ثروة ،


فبدأت رحلة كفاح مضنية ، حرمت نفسي خلالها من أشياء كثيرة ،


ورحت استثمر كل دقيقة وثانية ، وأجمع القرش فوق القرش ،


حتى كونت مبلغا متواضعا يصلح كبداية..


واستأجرت بالمبلغ دكانا في الجزء الجنوبي من السوق الكبير ، فاتخذت منه صالونا متواضعا لمسح الأحذية..


كانت الفكرة جديدة ، لم يسبقني إليها أحد ، فنجحت ،


ودرت علي ربحا وفيرا مكنني من شراء المحل ، وتطوير الصالون..


وشعرت بأن الدنيا قد بدأت تبتسم لي ، فاستبشرت ، وتفاءلت ،


واندفعت نحو أسوار الجنة التي رسمتها في خيالي ، بيد أن فرحتي لم تكتمل!..


فقد قررت الحكومة فجأة أن تزيل الطرف الجنوبي من السوق لإقامة مبنى البلدية فيه..


طار صوابي وأنا أرى الجرافات تزيل الصالون ، وتسد بأنقاضه بوابة أحلامي..


وكانت صدمتي أكبر عندما علمت بأن التعويض الذي صرفته الحكومة للمتضررين ظالم زهيد..


جن جنوني وأنا أرى الحلم يتسرب من بين أصابعي ، ووجدت نفسي أعود إلى نقطة البداية ،


بعد كل ما حققته من نجاح ، فانتابني إحساس عميق بالظلم والجور ، ففقدت شعوري بالأمان ،


وامتلأت نفسي بالحقد على كل شيء!..


ولم أرضخ للواقع ، فقررت أن أعوض خسارتي بأسرع وسيلة ، وأقصر طريق..


قامرت.. ربحت وخسرت..


لم أحتمل الخسارة الجديدة..


استدنت مبلغا وقامرت به..


خسرت في المرة التالية ، فجننت ،


وخضت شجارا عنيفا مع الذي غلبني ،


وانتهى الأمر بنا إلى السجن ،


هناك ، تعلمت فنون الجريمة ، وخرجت مسلحا بالخبرات المحرمة ، وانزلقت خطوة بعد أخرى..


سرقت وغششت وضربت وقتلت..


تاجرت بالتهريب والمخدرات ،


وعشت في هذا العالم كقرصان ألقى عواطفه في المحيط ، واستل سيفه المسموم ليحكم به البحار..


وتدفقت الأموال بين يدي ، فبدأت أصنع لي اسما وسمعة ، أسست شركة استيراد وتصدير ،


ثم قفزت قفزة أخرى ، فتزوجت أرملة ثرية ، وأنجبت منها أحلام..


وكان للمكانة المرموقة التي وصلت إليها مظهرها الرفيع ، فلم يعد بإمكاني أن أتابع أسلوبي القديم في الغش والنصب والاحتيال ،


وصار لابد لي من أشخاص موثوقين ، يقفون في الواجهة دائما ، ويتحركون وفق إرادتي ،


كالدمى في مسرح الأطفال ، فإذا ما سقطوا أفلت الخيط الرفيع الذي يربطهم بي من يدي ،


وتركتهم يسقطون وحدهم دون أن أصاب بأذى..


ووجدت ضالتي في شريحة من الشباب المندفع الطموح ، الذي يستعجل الوصول إلى الثروة ،


فأغريتهم بالرواتب العالية ، وقربت لهم طموحاتهم الحالمة إلى الثروة ،


فأغريتهم من أجل قفزة واسعة تحقق لهم أحلامهم الكبيرة وتريحهم من عناء الكدح والكفاح..


ومضيت في اللعبة بحذر شديد ، اصطاد الفرص عن بعد ، ثم أوحي إلى أعواني ممن اخترتهم بعناية ليلتقطوا الفرائس ويعودوا بها غانمين..


أما رجل المهمات القذرة ، فهو صديق قديم عرفته أيام الضياع ،


وكان مدمنا على نوع غال من المخدرات القوية ،


فكنت أوفر له ثمن المخدر وألجأ إليه في الأزمات لأستعين به في حسم الأمور المعقدة..


وقد كانت نورا بالنسبة لي مشكلة تحتاج إلى حسم ،


فقد أخفق الدكتور شريف في الضغط عليها ، فأخذت تثرثر بقصتها في كل مكان ،


ما جعلني أقلق على سمعة الشركة ، وعندما شاهدتها مع الدكتور صلاح في مقصف المركز الثقافي ليلة افتتاح معرض أحلام ،


أوحت لي أفكاري بأن الفرصة قد حانت للتخلص من ثلاثة مزعجين في وقت واحد..


نورا التي تهدد سمعتي ومستقبل أعمالي..


والدكتورصلاح الذي استولى على قلب ابنتي أحلام ، فشغفت به ، ورفضت أن ترتبط برجل غيره ،


وأخيرا الدكتور شريف الذي تمادت به أطماعه فأقدم على خطبة ابنتي أحلام وهو يلوح لي بما يعرفه عن الشركة من أسرار ،


ظنا منه أني قد أرهبه وأرضخ لرغبته ، فأزوجه ابنتي ، وأورثه ثروتي ، فوافقت مجاملا ،


ورحت أتحين الفرص للإيقاع به..


هذه قصتي أيها القاضي..


قصة إنسان ظلم فظلم ، وانتقم لنفسه من العالم الذي ضن عليه بالرحمة والعدل والاحترام..


ما إن انتهى عبد الغني الذهبي من الإدلاء باعترافاته ،


حتى نهض الأستاذ سعيد الناشف ،


واستأذن القاضي في إيراد معلومة مهمة ، قال الأستاذ سعيد :


ـ سيدي القاضي.. أنا أذكر الواقعة التي أوردها عبد الغني الذهبي حول إزالة الحكومة في ذلك الوقت للطرف الجنوبي من السوق الكبير ،


الحكومة آنذاك لم تعوضهم التعويض العادل..


لكني أحب أن أضيف هنا أن الحكومة التي جاءت بعدها مباشرة ،


أعادت النظر في ظلامة هؤلاء التجار ، ومنحتهم حقوقهم كاملة ،


ولهذا فأنا أعتقد أن مبرر الظلم الذي اتكأ عليه المتهم عبد الغني مبرر زائف قصده تضليل القضاء..


هتف عبد الغني في حنق ، وقد أخرجه تدخل الأستاذ سعيد عن طوره :


ـ أجل.. لقد عوضتني الحكومة التالية عن الظلم الذي أنزلته بي الحكومة التي سبقتها ، لكن ، متى؟..


بعد أن انزلقت قدماي إلى عالم الشر ، وتوغلت في دنيا الجريمة..


بعد أن لوث الحقد دمائي ، وشوه الظلم نفسي ، وفقد إيماني بكل شيء..


وأردف عبد الغني الذهبي ، وهو يشير إلى الأستاذ سعيد ، وقد انتفخت أوداجه ، وازدادت نبرته حدة وعنفا :


ـ وأنت أيها الصحفي البارع..


أين كان قلمك الناري عندما وقع الظلم علي وعلى أصحابي؟..


أتذكر؟..


أتذكر يومها كيف جئناك شاكين متظلمين ، ورجوناك أن تثير قضيتنا في صحيفتك؟..


فماذا قلت؟..


قلت لنا يومها بأن هذه القضية حساسة ، وأنك لا تستطيع أن تخوض فيها ،


لأن جريدتك جريدة ناشئة ، وتريد أن تشق طريقك بها دون عقبات!...


كيف تنسى هذه أيها الصحفي النزيه ، وتذكر تلك؟..


أم أنك نسيتها لأن عبد الغني الذهبي لم يكن آنذاك رجلا مشهورا يدر عليك التشهير به الربح الوفير ،


ويشد القراء إلى جريدتك ليقرؤوا فضائحه؟!..


أنتم يا عزيزي لا تتذكرون الناس إلا عندما يكبرون ويشتهرون ، لأن الحديث عنهم آنذاك ، والاقتراب من خصوصياتهم ،


يثير فرقعة عالية تلفت الانتباه إلى أقلامكم..


أما الصغار!.. أما البسطاء!..


فلا يهمكم منهم سوى قروشهم التي يشترون بها منشوراتكم وصحفكم!..


وتابع عبد الغني قائلا ، بلهجة لاح فيها التهكم :


ـ صحيح أيها الصحفي المحترف أني بدأت مجرما ،


لكني انتهيت تاجرا ، أفهم كل ألوان التجارة..


حتى التجارة بالكلمة!..


صمت الأستاذ سعيد ، ولم يعلق ، وعاد إلى مكانه مطرقا ، وكأن ثورة عبد الغني قد نالت منه!..


أما عبد الغني الذهبي ، فقد التفت إلى ابنته بعينين دامعتين ، وغمرها بنظرة ودودة ، ثم قال القاضي دون أن يرفع عنها عينيه :


ـ سيدي القاضي..


أرجو أن تفتحوا ملف التحقيق من جديد ،


لأعترف لكم بكل ذنب اقترفته ،


وكل سر أخفيته من أجل هذه الإنسانة الطاهرة فقط..


وأشار إلى أحلام..


No comments:

Post a Comment