Friday, March 12, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الثالث الثلاثون

"حكمت المحكمة حضوريا على المتهم الدكتور شريف عبد الجبار الطيب بالإعدام شنقا حتى الموت



بتهمة الاغتصاب والقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد ، وقد تمت إحالة أوراقه إلى سماحة المفتي..".


لم يكد القاضي أن ينتهي من الإدلاء بحكمه الأخير ، حتى انبثق من بين الحضور صوت قاصف كالرعد..


ـ هذا ظلم.. ظلم.. ظلم كبير لا يجوز!..


والتفتت الرؤوس المستطلعة نحو مصدر الصوت في فضول وحيرة ، وقد انفلتت من شفاهها عاصفة التساؤلات!..


ـ من هو صاحب الصوت؟..


ـ وماذا يريد؟


ـ وما علاقته بالقضية؟..


ـ وماذا يعرف؟..


وجمدت النظرات الحائرة على فتاة تقف في الصفوف الخلفية من الحضور ،


وهي تنتفض غضبا وحزنا وثورة ، وقد تشنجت أصابعها فوق رأسها كمن يشكو من صداع مدمر ،


وتقلصت ملامحها في كآبة مؤثرة..


وسرت في القاعة همهمة تتعالى ، فهرع القاضي إلى مطرقته الخشبية ،


وأرسل طرقات التحذير لتلجم الجلبة التي سادت المكان ،


فصمتت الألسنة مرغمة ، لكن العيون ظلت تصرخ بالسؤال..


وأدركت أن قنبلة موقوتة ستنفجر..


قنبلة من نوع فريد ، لم يتعرف عليها العالم إلا في أزمنة نادرة من التاريخ..


قنبلة آدمية من النوع المرهف الذي يثير الظلم طاقته الكامنة ، فيتفجر بالعدل ، وينبش الحقائق من الجذور..


وهتفت الفتاة بصوت لاهث يتسارع إيقافه وهو يسعى نحو لحظة الانفجار :


اسمي أحلام.. الدكتورة أحلام الذهبي.. ابنة عبد الغني الذهبي ،


رجل الأعمال المشهور الذي ورد اسمه في هذه القضية ، وبرأت المحكمة ساحته..


ثم أردفت أحلام بنبرة متهدجة مزقها الانفعال :


ـ أرجو أن تسمعني أيها القاضي حتى النهاية ، فأنا أملك معلومات مثيرة ، سوف تحول مجرى القضية ، أرجو أن تسمعوني جميعا ، فما سأقوله مهم وخطير..


ولم تستطع أحلام أن تسيطرعلى انفعالاتها ، فانفجرت باكية وسط دهشة الجمهور وذهوله ،


فأثار بكاؤها النفوس ، وحرك المدامع..


واقترب والد أحلام من ابنته كالذاهل ، وحاول أن يهدئ من روعها ،


لكنها دفعته عنها بعنف ، وأخفت وجهها المخضل خلف كفيها ، وكأنها لا تريد أن تراه!..


تبادل أعضاء المحكمة نظرة يعيث فيها التساؤل والوجوم ، وفغر القاضي فاه دهشة وحيرة ،


وقد تسمرت نظراته التائهة فوق هذه الفتاة اللغز التي تتصرف بغموض مثير!..


وران على المحكمة صمت ثقيل ، فحبس الحاضرون أنفاسهم ،


وقد غاصوا بخواطرهم في دوامة من التساؤلات الملحّة التي تريد أن تفهم ما يجري ،


وأرهفت الأسماع بانتظار ما ستدلي به أحلام من مفاجآت..


وسرعان ما كبحت أحلام مشاعرها ، فكفكفت دموعها ، وتماسكت ،


ثم تقدمت من منصة الشهادة لتدلي بأقوالها ، فرفعت يدها فوق المصحف وألقت اليمين..


ـ أقسم بالله العظيم أن أقول الحق مهما كان مرا ، ولو اتهمني الناس بالجحود أو الخيانة أو الجنون!..


لم يعلق القاضي على صيغة اليمين!.. بل لعله لم ينتبه إليها ، فقد كان غارقا في أفكاره وتوقعاته..


ماذا تريد هذه الفتاة أن تقول؟


وما المعلومات التي تدعي أنها ستغير مجرى القضية؟


أيكون كل هذا الجهد الذي بذله ليفتي في هذه القضية الشائكة ، قد أهدر في اتجاه خطأ ..


أيكون القاتل الحقيقي غير الدكتور شريف الذي ما فتئ ينفي عنه تهمة القتل منذ بداية القضية؟..


واستند القاضي بمرفقه فوق منضدته ، ثم ألقى برأسه المثقل بالأسئلة فوق راحته ،


وراح يصغي إلى أحلام ، وهو يحدق فيها بنظرات يفيض منها الترقب والقلق..


أرسلت أحلام تنهيدة مرة ، ثم قالت وهي تنتصب بقامتها كخطيب مفوه يقف فوق بركان من الكلمات الملتهبة :


ـ سيدي القاضي.. الآن حصحص الحق ، وآن للحقيقة أن تعلو فوق كل اعتبار ،


وآن للضمير الغافي أن يستيقظ من سباته ليمزق الصمت الذليل ، ويصدع بكلمة الحق رغم كل الأنوف..


عذرا أيها القاضي ، فأنا لم آت إلى هنا لأقف فيكم خطيبة ، أو محاضرة..


لكني جئت لأطلق صرخة مدوية سيزلزل صداها أولئك الذين قدسوا المادة ، واستهانوا بالقيم..


أولئك الذين يعيشون بيننا كالبشر ، ويتصرفون كالذئاب.. الذين يتكئون على القانون ليعيشوا فوق القانون..


أولئك الذين يظلمون الناس بضمير مرتاح ، ويسحقونهم بأعصاب باردة ،


ويشربون دمائهم بكؤوس من الفضة..


قد تتساءل أيها القاضي الوقور لماذا انتظرت حتى نهاية المحكمة ، ثم تقدمت لأبوح بما سيغير اتجاه التحقيق ، ويكشف الجاني الحقيقي في هذه القضية؟


سؤال وجيه يستحق الإجابة..


لقد كنتُ يا سيدي ـ أمتحن عدالتكم!.. اختبر قوانينكم!..


أرقب عجزكم في الوصول إلى المجرم ، وهو يخطر أمامكم كالطاوس!..


عذرا أيها القاضي ، فأنا لا أسخر منكم أو أطعن في نزاهتكم ،


لكني أريد أن أبين لكم أمرا على غاية من الخطورة..


لا قيمة يا سيدي لقانونكم في غياب الضمير..


لأن الإنسان عندما يلغي ضميره يستطيع أن يحتال على القانون ،


وأن يقفز فوقه ، وقد يتدرع به ، فيحوله من سلاح في وجه الشر إلى سلاح في خدمة الشر..


نعم.. قانونكم لا يكفي لتحقيق الأمن والأمان..


لابد معه من التربية.. من الأخلاق.. من الضمير..


لأن الضمير عندما يثور يحاكم النفس قبل أن تحاكموها..


يؤنبها بقسوة.. يجلدها.. يطهرها..


يدفعها إلى مواجهة الحقائق مهما كانت مرة وأليمة..


تريدون دليلا على ثورة الضمير؟..


أنا هو الدليل..


فأنا ما كنت لأبوح لكم بما ستذهلون له ، لولا أن كابدت داخلي سياط الضمير وهي تجلدني صباح مساء ،


وتعذبني عذابا أليما يفوق كل احتمال..


نعم.. لقد أرقتني الحقيقة المرّة حتى عجزت عن كتمانها ،


وأنا أرى العدالة البشرية تائهة ضائعة مخدوعة تدين البريء ، وتبرئ المدان..


وعذاب الضمير أيها القاضي لم يداهمني وأنا أتابع هذه القضية على صفحات الجرائد وفي أروقة المحاكم..


بل داهمني منذ عهد بعيد..


عندما اكتشفت بين أوراق والدي شهادة خطيرة تثبت تورطه في جريمة بشعة تذكرونها جيدا..


تلكم هي حادثة العمارة التي انهارت فوق رؤوس ساكنيها ، وسحقت تحتها عددا من الأبرياء..


يومها قالوا : عبد الغني الذهبي لا ذنب له ، المسؤولية كلها تقع على المهندس الذي تلاعب بالمواصفات ،


واقتصد في المواد الأولية ، ليختلس ثمن ما وفره منها ،


وكان المحاسب المسؤول عن حسابات العمارة قد اعترف أثناء التحقيق بأن والدي


هو الذي كان يأمر المهندس المنفذ بالتوفير والاقتصاد في المواد اللازمة لتسليح البناء ،


لكن هذا المحاسب غير أقواله أمام المحكمة ، وأنكرها..


وعندما عادت المحكمة إلى ملفات التحقيق لم تجد الاعترافات الأولى التي أدلى بها المحاسب الحقيقية اختفت من ملفات التحقيق بفعل خائن ،


وشاءت الأقدار أن أكتشفها ، وهاك صورة عنها..


ودفعت أحلام برزمة من الأوراق إلى القاضي ، فراح يقرؤها بإمعان ، ثم نحاها جانبا ،


وعاد بنظراته إلى أحلام ، وكأنه يرجوها أن تكمل ، ولم تلبث أحلام أن قالت بنبرة حزينة :


ـ عندما اكتشفت هذه الأوراق صدمت.. ذهلت..


فقدت احترامي لوالدي ، وفقدت احترامي لنفسي ،


ولازمني شعور فظيع بأني ابنة مجرم..


مجرم جشع يستهين بأرواح الأبرياء ، ولا يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم من أجل مصالحه وأطماعه..


ورحت أرقب تصرفات والدي بعيون ملؤها الشك والريبة ،


فحيرتني شخصيته المزدوجة التي يحيا بها بين الناس..


يفترسهم في الليل ، ويضحك لهم في النهار..


لا تنظروا إلي هكذا أرجوكم ، فأنا لست جاحدة ، أو شاذة!..


لا تظنوا أني أستعذب البوح لكم بهذه الاعترافات..


فأنا أعترف لكم كمن يلفظ من جوفه جمرا ونارا ، لكني يجب أن أعترف..


لم أعد أحتمل وجوه الضحايا وهي تحاصرني في الصحو والمنام!..


لم أعد أطيق أن أصغي إلى أرواحها وهي تشكو لي ظلم أبي ، وتشكو مني صمتي وجبني..


لن أرضى بعد اليوم أن أكون شريكة أبي في جرائمه ، فالسكوت عن الظلم جريمة..


لن أطيل.. فأنا ما جئتكم لأحدثكم عن نفسي!..


بل جئتكم لأكشف تفاصيل جريمة حبكها أبي..


الدكتور شريف اغتصب نورا صحيح لكنه لم يقتلها..


القاتل رجل آخر أعرفه!..


رجل غريب كان يتردد على والدي في فترات متباعدة..


رجل غامض.. وجهه دائما مقطب ، وملامحه قاسية كالجليد..


وفي عينيه بريق وحشي يتطاير كالشرر ، ويشع بالرهبة والرعب!..


هذا الرجل كان قريبا جدا من والدي ، لكنه لم يكن يظهر في السهرات أو الحفلات التي كان يقيمها أبي لمعارفه وأصدقائه..


كان دائما يأتي في أعماق الليل ، ويتستر بالظلام..


لا يتكلم إلا همسا.. لا يعرف ما هو الابتسام..


دائما متجهم صامت كأبي الهول..


يأتي بحركات ثابتة لا يغيرها.. يتحرك كالآلة..


لكأنه رجل آلي يتحرك وفق برنامج مرسوم..


كنت أتشاءم منه كثيرا!! فما رأيته مرة إلى وحدثت مصيبة!..


لحظة من فضلكم!..


إني أتذكر الآن.. لقد زارنا هذا الرجل ليلة الهزيمة..


هزيمة الخامس من حزيران.. سألني يومها عن أبي بلهجة جافة وصوت غليظ..


فأخبرته بأنه قد سافر.. رمقني بنظرة جامدة ، ولم ينبس ، ثم مضى ، وتوارى في الظلام..


هذا الرجل زار والدي قبل مقتل نورا بليلة واحدة..


كان الوقت متأخرا ،


وكنت منهمكة في رسم لوحة جديدة ألحت علي فكرتها ،


شاهدت والدي يستقبله بالترحاب ، فاستبد بي الفضول..


من هذا الرجل؟ ما الذي يجمعه بوالدي كل هذه السنين؟!.. اقتربت من مكتب والدي واستمعت لما يدور..


قال والدي : "طلبتك لأمر هام..".


تساءل الرجل : "مهمة جديدة؟".


أجاب والدي : "الفتاة التي طلبت منك أن تصورها مع الدكتور صلاح ليلة افتتاح معرض أحلام..".


سأل الرجل : "ما شأنها؟".


أجاب والدي : "إنها تثرثر كثيرا..".


قال الرجل : "يجب أن ترفع السعر..".


همس والدي : "تبدو فقيرا هذه الأيام..".


قال الرجل : "ثمن المخدر يرتفع..".


ضحك والدي : "كن مطمئنا.. أنا لا أبخل عليك بشيء..".


سأل الرجل : "هل تريد شيئا آخر؟..".


أجاب والدي : "ضع هذه الصورة في حقيبتها وهذه الرسالة!..".


قال الرجل : "تريد اصطياد عصفورين في آن واحد!..".


ضحك والدي طويلا وقال : "بل ثلاثة عصافير.. ثلاثة عصافير من النوع المزعج..".


لم أفهم من هذا الحوار ، ولم أسمع كلاما بعد ذلك ! سمعت حركة وجلبة في الداخل..


صوت خزنة والدي تفتح ثم تغلق ، وصوت سعال شديد كالذي يصاب به المدمنون على التدخين ،


ثم اقتربت الأقدام من الباب ، فتواريت ، ورحت أرقب ما يحدث من بعيد..


خرج الرجل ، وخرج والدي خلفه..


قال له والدي : "لن أوصيك.."


هز الرجل رأسه في ثقة ، ثم مضى..


وأطرقت أحلام برهة ثم تابعت بصوت مختلج :


وعندما علمت بمقتل نورا ، وقرأت تفاصيل الجريمة ،


فهمت معنى هذا الحوار ، وعرفت لأول مرة أن أبي يستعمل رجلا للمهمات القذرة!..


وفاض بها التأثر ، فاندفعت الدموع من عينيها في صمت ،


فكانت دموعها الصامتة الكئيبة أبلغ من كل ما قالته من كلمات..


No comments:

Post a Comment