Friday, March 12, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الثاني الثلاثون

دكتور شريف ... أنت متهم باغتصاب وقتل المغدوره نورا سنديان!..



بهذه الكلمات الصاعقة داهم المحقق الدكتور شريف الطيب مدير شركة الذهبي للتجارة العامة..


دكت كلمات المحقق هدوء الدكتور شريف ، وأطاحت بابتسامته الواثقة التي استقبلنا بها ، حملق في ذهول ،


وتلفت حوله كمن تلقى صفعة هائلة!..


ـ عفوا ، ماذا قلت؟


ـ كما سمعت ، أنت متهم بالاغتصاب والقتل ،


قتل الآنسة نورا التي كانت تعمل هنا موظفة طباعة باللغة الإنكليزية..


انهار الدكتور شريف على كرسيه كجدار يتداعى ، ثم قال بنبرة وانية وهو يتظاهر بالدهشة والبراءة :


ـ حضرتك فاجأتني.. لا أعرف عم تتحدث!..


ابتسم المحقق وقال وهو يخترق الدكتور شريف بنظراته :


ـ كلامي واضح..


ـ عفوا!.. يبدو أنك لا تعرفني!!..


ـ زدني تعريفا..


ـ أنا الدكتور شريف الطيب ، دكتوراه في الاقتصاد من الولايات المتحدة ،


ومدير شركة الذهبي التجارية أكبر شركة في البلد ، أنا موطن صالح ،


منهمك في عملي ، ولست متسكعا أو بلطجياً حتى توجه لي هذه الاتهامات!..


تضاحك المحقق ساخرا ، وجعل يدور حول مكتب الدكتور شريف في محاولة للعبث بأعصابه المتوترة ،


ثم توقف خلفه برهة ، وقال وهو يربت على كتفه بلطف :


ـ دكتور شريف.. المتسكعون والبلطجية وقطاع الطرق ، نعرفهم وحدا واحدا ،


لكل واحد منهم عندنا ملف وصورة وعنوان..


ثم أردف المحقق وهو يميل على أذن الدكتور شريف هامسا :


ـ المجرمون الذين نواجههم هذه الأيام ـ للأسف ـ أنيقون ومهذبون وأذكياء ، وهو أحيانا مثقفون ورجال أعمال!..


ثم اختار المحقق كرسيا مقابل الدكتور شريف فاسترخى عليه وهو يقول :


ـ في مجتمعنا ـ يا عزيزي ـ كل شيء يتطور ، حتى الجريمة..


فَقَدَ الدكتور شريف سيطرته على أعصابه ، فهبَّ واقفا وصاح باهتياج محموم :


ـ أنا لست قاتلا..


استقبل المحقق ثورة الدكتور شريف ، ببرود شديد ،


وسدد إليه نظرة ساخرة يسطع منها بريق ثاقب ،


ولم يصمد الدكتور شريف لنظرة المحقق الصارخة بالتكذيب والاتهام ،


فخرَّ جالسا كمن صرعه شعاع من الليزر ، وردد بصوت واهن مثقل بالرعب :


ـ أنا لم أقتل نورا.. أقسم لكم بأني لم أقتلها..


وشعر المحقق بأن الدكتور شريف قد بدأ يتصدع من الداخل ، وأن مقاومته بدأت تتراخى ، فانهال عليه بالأسئلة :


ـ اسمك وعملك وعنوانك؟


ـ اسمي شريف عبد الجبار الطيب.. أعمل مديرا لشركة الذهبي من ثلاث سنوات..


أقيم في الضاحية الغربية ـ شارع السفارات ـ فيلا رقم (11)..


ـ مؤهلاتك العلمية؟


ـ دكتوراه في الاقتصاد وإدارة الأعمال من الولايات المتحدة..


ـ متى تخرجت..


ـ منذ خمس سنوات..


ـ كيف كنت تؤمن مصاريف دراستك؟


ـ عن طريق الوالد..


ـ ما هو عمله ؟


ـ مدرس رياضيات..


ـ يعني ليس ثريا كما توقعت!..


ـ هل لهذا علاقة بالتحقيق؟..


ـ كل شيء مفيد في التحقيق..


ـ الوالد رجل متوسط الحال.. وقد كان يقوم بإعطاء الدروس الخصوصية بعد الدوام ،


ليوفر لي مصاريف الدراسة في أمريكا..


ـ وتقيم في فيلا؟!


ـ أعتقد أن هذه ليست جريمة..


ـ ملك أم إيجار؟


ـ ملك..


ـ كيف تسنى لك امتلاك فيلا في الضاحية الغربية ، ولم يمض على تخرجك سوى خمس سنوات؟


ـ الفضل يعود للسيد عبد الغني صاحب الشركة هو الذي ساعدني في شرائها..


ـ مقابل؟


ـ مقابل خدماتي..


ـ خدمات من أي نوع؟


ـ خدماتي كمدير للشركة..


ـ ألا تلاحظ معي بأن السيد عبد الغني سخي أكثر مما يجب؟


ـ لا يبدو لي الأمر كذلك!


ـ وضّح..


ـ كل ما في الأمر أن السيد عبد الغني إنسان عملي.. إنسان ذكي يحاول دائما أن يكسب إخلاص موظفيه..


يحاول أن يحرض عندهم الطموح ليعملوا بدأب ونشاط وحماس.. لذلك يقدم لنا حوافز عالية..


شمل المحقق الدكتور شريف بنظرة تصرخ بالشك ، ثم قال :


ـ الحافز يمكن أن يكون مكافأة في السنة.. مكافأة كل ستة أشهر ، لكن فيلا؟.. هذا غير مقنع.. أليس كذلك؟


ـ عفوا.. الأمور ليست بهذه الصورة..


القصة وما فيها أنني عندما بدأت العمل مع السيد عبد الغني


أبديت تفانيا وإخلاصا وكفاءة ، فأراد السيد عبد الغني أن يشجعني ،


ويعتمد علي في أعماله أكثر ، فجلس معي ذات يوم سألني عن أحلامي وطموحاتي ،


فأخبرته بأني أحلم بفيلا ، وسيارة ، وراتب كبير..


ـ وماذا بعد؟..


ـ قال بأنه يبحث عن موظف يملك كفاءتي وإخلاصي ، ووعدني بأنه سيحقق لي كل طموحاتي وأحلامي ،


إن أنا عاهدته على الاستمرار بنفس النشاط والتفاني ، وحققت للشركة المزيد من المكاسب والإنجازات..


ـ هل وفى بوعده؟


ـ أجل.. رفع راتبي إلى المستوى الذي طلبته ، وأهداني سيارة ،


وكان يملك فيلا في الضاحية الغربية فسجلها باسمي..


قاطع المحقق الدكتور شريف قائلا :


ـ دكتور شريف.. لا تحاول إقناعي بأن السيد عبد الغني أعطاك الفيلا دون ضمانات تكفل له حقه فيما لو..


ـ طبعا.. طبعا.. كانت هناك ضمانات..


ـ ما هي؟


ـ وقعت على مئة وصل أمانة بثمن الفيلا ، واتفقنا على أن يسقط عني وصلا منها ،


كلما حققت للشركة إنجازا مهما أو صفقة رابحة..


ـ كم وصل أمانة سقط عنك حتى الآن؟


ـ خمسة عشر..


ـ خلال؟


ـ خلال عامين ونصف العام تقريبا..


ـ مباراة طريفة..


ـ كلانا مستفيد..


ـ لكنها مباراة مرهقة في ذات الوقت..


ـ لماذا؟


ـ لأن إيصالات الأمانة أو ما يدعى بالكمبياليات ستظل عبئا مزعجا على كاهلك حتى تتخلص منها ،


ومن المسؤولية القانونية الجسيمة المترتبة عليها ، فيما لو دب خلاف بينك وبين السيد عبد الغني ،


أو أخفقت في تحقيق المزيد من الإنجازات..


ـ هذا صحيح.. لكنها حافز آخر على كل حال..


شعوري بضرورة التخلص من هذه الايصالات سيشحذ همتي دائما لتحقيق المزيد من الصفقات والنجاحات..


قال المحقق بنبرة ذات مغزى :


ـ وقد تضطر للقيام بصفقات غير مشروعة من أجل تحقيق نجاحات سريعة!


نظر الدكتور شريف إلى المحقق في قلق وقال :


ـ هل أفهم أنك تتهمني بالقيام بصفقات غير مشروعة؟


تجاهل المحقق سؤاله ، وقال :


ـ ماذا تعرف عن نورا سنديان؟


ـ كانت موظفة بسيطة تعمل هنا.


ـ يقولون بأنها كانت جميلة!


ـ احتكاكي بها كان قليلا..


ـ كيف كان سلوكها في العمل؟


ـ لا أحب الإساءة للأموات..


ـ أريد إجابة محددة..


ـ الكل يجمع على أنها كانت فتاة فاسدة..


ـ ما هو دليلهم؟


ـ أنت تعرف كيف تنتشر مثل هذه الأخبار..


ـ أريد رأيك أنت؟..


ـ لولا تصرفاتها معي لما صدَّقت..


ـ كيف تصرفت معك؟


ـ راودتني عن نفسها أكثر من مرة!


ـ لكنك قلت بأن احتكاكك بها كان قليلا..


ـ قليلا ، وليس معدوما..


ـ كيف تجرأت على ذلك والفرق الوظيفي بينكما بعيد؟


ـ هذا ما حصل.. كانت وقحة.. ظنت أنها بذلك تتقرب مني ، وتطور وضعها الوظيفي..


فقد كانت حالتها المادية سيئة وكانت بحاجة إلى مال..


ـ ماذا فعلت عندما راودتك عن نفسها؟


ـ طردتها طبعا.. فصلتها من العمل..


ـ يقولون بأنها شكتك للسيد عبد الغني ، واتهمتك باغتصابها..


ـ كان طبيعيا أن تتصرف كذلك ، لكن السيد عبد الغني لم يضع لاتهاماتها ، وطردها من مكتبه..


ـ يقولون أيضا : إن نورا قد وضعت يدها على أوراق خطيرة تثبت أن الشركة تمارس أعمالا غير مشروعة..


ـ هذا كلام مختلق ، أوراق الشركة تحت تصرفك وتستطيع أن تتحقق من كل شيء بنفسك..


ـ هل تتجر الشركة بالأدوات الطبية؟


ـ الشركة تتجر بكل شيء.. لها مستشارون في معظم حقول التجارة ،


وهي تقدم دائما على الاتجار بالأصناف الرائجة والمطلوبة في السوق..


ـ كالمحاقن الطبية مثلا؟


ـ المحاقن الطبية لم تعد تجارة رابحة ، لقد تنبه التجار إلى رواجها وأغرقوا بها السوق..


ـ تستطيع أن تنافسهم!


ـ كيف؟


ـ تنزل السعر..


ـ سعر المحقنة البلاستيكية زهيد ، والمنافسة فيه غير مجدية..


ـ عندما تستورد كميات هائلة من المحاقن التي انتهى زمن استعمالها ،


ستكون كلفة المحقنة الفاسدة أقل بكثير من كلفة المحقنة الصالحة للاستعمال ،


وسيصبح من الممكن طرحها في السوق بسعر منافس ، مع المحافظة على أعلى ربح!..


قال الدكتور شريف بلهجة تكلف فيها الورع :


ـ لا.. لا.. هذا غش لا يجوز..


لم يكترث المحقق بورعه الكاذب ، فأردف يقول :


ـ وعندما يكون طموحك أن تحقق المزيد من الصفقات السريعة


وتتخلص من إيصالات الأمانة التي تعيق امتلاكك الكامل للفيلا..


عندئذ ، يمكن أن تكون صفقة المحاقن الفاسدة خطوة على طريق أحلامك المريضة..


ـ سيدي.. أنا رجل عندي ضمير ، و...


ـ وعندما تكتشف فتاة كنورا سر جريمتك البشعة صدفة ، تصبح هذه الفتاة البريئة عقبة مزعجة في طريق طموحك تجب إزالتها بأية وسيلة..


هتف الدكتور شريف منكِرا :


ـ أنا لم أقتل نورا..


ـ اغتصبتَها ثم قتلتها ، ثمة أدلة كافية لإدانتك..


ـ أقسم لك بأني لم أقتلها..


ـ أين كنت مساء السبت بين السادسة والواحدة ليلا..


ـ كنت.. كنت..


ـ أين؟..


ـ سهرت مع أحد الأصدقاء..


ـ أين؟..


ـ هل هذا مهم؟


ـ يجب أن تثبت مكان وجودك ساعة وقوع الجريمة..


ـ كنت في سهرة مع صديقة..


ـ أين؟


ـ في بيتها..


ـ من هي؟


ـ لا أستطيع ذكر اسمها..


ـ لماذا؟


ـ لأنها.. لأنها سيدة متزوجة..


ـ أتخشى من زوجها على نفسك؟


ـ لو كان رجلا عاديا لهان الأمر!..


ـ أنت في موقف صعب لا تحسد عليه..


ـ صدقوني أنا لم أقتل نورا..


نهض المحقق في حزم وقال بنبرة حاسمة :


ـ يبدو أنك لا تريد أن تعترف.. أنا مضطر للقبض عليك..


رفع الدكتور شريف إلى المحقق نظرات زائغة فيها توسل وضراعة ، ثم همس في ذهول :


ـ لست قاتلا..


ـ لم تقدم دليلا على براءتك..


ـ يا لها من نهاية!..


ـ تفضل معنا بهدوء..


ـ هل تصدقني إذا قلت الحقيقة؟


قال المحقق وهو يهز سبابته كالمتوعد :


ـ إذا قلت الحقيقة..


ـ وهل سيخفف ذلك عني..


ـ كثيرا..


أطرق الدكتور شريف إطراقة الذليل ، وداوم الإطراق برهة ، فبدا كالمتردد ،


وطال صمته حتى ضاق المحقق به ذرعا ، فقال له بنبرة غيظ :


ـ هل ستعترف ؟ أم...


رفع الدكتور شريف وجها شاحبا مخضلا بالدموع ، وشخص بنظراته الكسيرة نحو شيء ما ،


وكأنه ينظر إلى حطام أحلامه وقد تكومت أمامه كأنقاض بنيان منهار ،


ثم أنشأ يروي اعترافاته كمن يخاطب نفسه..


قال بلهجة تشي بالحسرة والندم :


ـ كان هذا اليوم دائما ماثلا أمامي..


إنه النهاية الرهيبة التي كنت أخشاها ، لكن أحلامي الكبيرة ، وطموحاتي الجشعة كانت تشدني بقوة..


تجذبني إليها ببريقها الأخاذ ، وسرابها الخادع ،


ثمة سؤال كان يؤرقني ولا أجد له جوابا ،


لماذا لا يحق لي أن أتمتع بالحياة كما يتمتع بها المترفون؟


ألأني ولدت من أب لم يتسطع أن يكون أكثر من مدرّس؟!..


وذهبت إلى أمريكا للدراسة..


تمكنت من الحصول على الدكتوراه في فترة قياسية ،


وعدت إلى وطني مشحونا بنشوة الفوز ، وبدأت أطرق أبواب العمل..


بحثت عن وظيفة كبيرة تليق بمؤهلي العالي ، وتؤمن لي الحياة الناعمة الرغيدة التي أحلم بها..


فوجئت بأن الشهادات العالية لم تعد جواز سفر يؤهل أصحابها للعبور إلى المجد الذي يحلمون به..


ثمة شهادات كثيرة ، وعلى صاحب الشهادة أن ينتظر دوره في سلم الصاعدين..


والتفت حولي فوجدت بعض أقراني ممن فشلوا في دراستهم ، وتركوا المدرسة في مراحلها الأولى..


وجدتهم قد أصبحوا رجالا مرموقين في المجتمع دون أن تقف الشهادة عائقا في طريقهم إلى الثروة والعز والجاه!..


قابلت أحدهم ذات يوم..


كان تلميذا خائبا بليدا ، اضطر إلى ترك المدرسة بعد أن رسب في الصف الرابع الابتدائي لمدة عامين متوالين ،


فاشتغل أجيرا في محل لبيع الفلافل..


صادفته بعد عودتي من أمريكا..


كان يقود سيارة مرسيدس من النوع الذي حلمت به كثيرا ، لم أصدق ،


قال : "اصعد" ركبت معه ، وسألته عن هذا العز الذي ينعم فيه ،


ضحك وقال : "الفلافل!.. هذه بركات الفلافل!..


أليست خيرا من السهر والدراسة ووجع الدماغ؟.."..


وسألني عن آخر أخباري ، فأجبته بأني عدت من أمريكا بشهادة الدكتوراه ،


ولا أجد عملا ، نظر إلي متعجبا وقال :


"أنا أعرف أن الأطباء يحققون دخلا ممتازا ، كيف لا تجد عملا وأنت دكتور من أمريكا؟!..".


ضحكت وتحسرت.. صديقي بائع الفلافل يظنني طبيبا!..


وضحت له طبيعة اختصاصي ،


فابتسم وقال : "لماذا لا تأتي وتستلم إدارة مطعمي الجديد؟ عندي مطعم حديث ،


وابحث عن عمن يدير شؤونه ، وأنت أولى من الغريب..".


هزئت بكل شهاداتي..


ما ضرني لو أني تركت الدراسة مثل صاحبي وانخرطت في سلك الفلافل؟!..


واستبسلت في البحث عن فرصة كبيرة حتى وصلت إلى هذه الشركة ،


ووجدت فيها مستقبلي الذي كنت أنشده..


امتحن السيد عبد الغني قدراتي في البداية ، وعندما وثق بكفاءتي وإخلاصي أغرقني بالحوافز والمكافآت ،


جعلني أتذوق طعم النجاح ، ثم أمسك بأحلامي بقبضة واثقة تعرف متى تمنح ، ومتى تمنع؟..


كالمروض في السيرك.. يحمل السوط بيد ، وقطعة اللحم بيد ، ثم يحرك أُسوده كيفما يريد..


وعشت في سباق مع الزمن..


كانت أمنيتي أن تنطوي الشهور بلمح البصر ، حتى ينمو رصيدي في البنك ،


وتصبح الفيلا ملكي ، وأدخل عالم الأثرياء..


ووجدت في السوق فرصا لتحقيق نجاحات سهلة ، فيها بعض التجاوزات المأمونة ، فأردت الاستفادة منها ،


لكني أحببت استشارة السيد عبد الغني قبل أن أقدم عليها..


قال لي السيد عبد الغني : "أنا لم أدخل الجامعة مثلك ، لكني أعرف كيف أرسم الخطوط البيانية ،


وأحب أن أرى الخط البياني لأرباح الشركة في صعود مستمر ،


عندما أرى الخط البياني للأرباح ماضياً في الصعود ، أطمئن إلى أن من أعتمد عليهم أهل للثقة ،


وعندما يتوقف خط الربح أو يهوي أعرف أن من أعتمد عليهم قد فشلوا واستنفذوا أغراضهم ،


انطلق إلى عملك ، ولا تشاورني بعد اليوم في شيء..".


كانت هذه الكلمات هي الضوء الأخضر الذي سمح لي بالانطلاق بأقصى سرعة..


بدأت أحصد الفرص السهلة ، واجتهدت في هندسة الإطار القانوني لكل تجاوز ،


وبدا لي الطريق إلى الثروة ممهدا محفوفا بالزهور ،


لكن القدر لم يرحمني ، فأرسل إلي نورا لتقف في طريقي ، وتعيق اندفاعاتي المجنونة..


وسكت الدكتور شريف ، وغاب برهة في أحضان الصمت..


كانت ملامحه غارقة في الندم..


بدا وكأنه يلم شتات نفسه من تحت أثقال الخزي والعار ، ليبوح بالجزء الأبشع من جريمته ،


واستأذن المحقق في تدخين سيجارة.. لعله أراد أن يخدر بدخانها المسموم شعوره بالذنب!..


ونظرت إلى ساعتي في قلق.. كانت الساعة تسعى نحو الثامنة ، وقد شارف دوام الشركة على الانتهاء ،


لابد أن أحدهم قد أخبر عبد الغني بأن مديره المدلل يتعرض للتحقيق ،


لكنه لم يكترث!.. لم يظهر حتى الآن!..


لعله قد تخلى عن خطيب ابنته بعد أن كشفته جرائمه!..


آه. لا أصدق أن أحلام توافق على وغد كهذا!..


أيلجئها ما حدث بيننا إلى التفريط بحبها ، والرضاء بأي رجل؟..


وأي رجل؟.. رجل ممن كرهتهم دائما أحلام!


أغلب الظن أنها قد تعرضت لضغوط عنيفة من أبيها ، لعله قد أرغمها على هذا الزواج..


مستحيل!.. أحلام لا يمكن أن توافق..


في الأمر غموض محير أتمنى لو اكتشفه!..


ورحت أسترجع أحداث هذا اليوم العاصف في ألم.. ترى؟ كيف تلقى الأهل والأصدقاء نبأ اعتقالي؟..


نظرت إلى المحقق في شرود.. كان يقتحم الدكتور شريف بنظرات ثاقية متوثبة ،


تريد لو تنفذ إلى صدره لتعرف ما يخفيه من حقائق ،


أما الدكتور شريف ، فقد كان يتهرب من نظرات المحقق العنيدة المتفحصة ،


متشاغلا بسيجارته التي كان يتأملها وهي تتآكل سريعا بسبب شراهته البشعة في التدخين ،


أعجبتني طريقة المحقق في العمل إنه يتحرك بسرعة حتى لا تضيع منه الخيوط..


يفاجئ المشبوهين باتهاماته الصاعقة ، قيل أن يرتبوا دفاعهم..


يفرز خيوط الحقيقة بعناية ثم يصل بينها بذكاء..


أينجح في الوصول إلى القاتل في يوم واحد؟!..


أيكون الدكتور شريف حقا هو القاتل؟!..


ما الذي حشرني في كل هذه الأحداث؟!..


وخرج الدكتور شريف عن صمته ،


قال : وهو يزفر النفس الأخير من سيجارته :


ـ لم يخطر لي يوما أن أؤذي نورا ، ولم أكن لأهتم بها لولا صدفة..


صدفة يمكن أن تحدث في أي مكان..


فقد اجتمعت في الشركة موظفتان تدعيان نورا..


نورا سنديان المرحومة ، وكانت تعمل طابعة باللغة الإنكليزية ،


ونورا كامل المسؤولية عن رسائل التلكس ، وهي موظفة قديمة يأتمنها السيد عبد الغني على أسرار كثيرة ،


وهي أيضا مسؤولة عن حفظ الوثائق والعقود والرسائل الخاصة بالشركة..


وحدث أن ورد إلينا تلكس من شركة أمريكية للصناعات الطبية ،


تعرض فيه علينا شراء كمية هائلة من المحاقن البلاستيكية التي انتهى زمن استعمالها بأسعار زهيدة ،


فكرت في العرض ، فوجدت فيه فرصة للمكسب السهل..


قفزة جديدة تقربني من أحلامي..


كانت المحاقن من النوع المطلوب في السوق ، وكان بإمكاني تسويقها بسرعة ، ولم أتردد..


تناولت ورقة وكتبت الرد.. لا مانع لدينا من استيراد الكمية المذكورة شريطة تمديد تاريخ الاستعمال..


وكان أحد المستخدمين قد جاءني بالشاي ، فسلمته الرد المكتوب وطلبت منه أن يعطيه لنورا..


حمل المستخدم الرد ومضى به ، وما كاد يغيب حتى تذكرت شيئا مهما.. تذكرت أني لم أحدد للمستخدم أية نورا قصدت ،


وأن الأمر قد يلتبس عليه ، ولا سيما أنه مكتوب باللغة الإنكليزية.. أسرعت خلفه إلى غرفة المرحومة نورا ، وكانت قريبة من مكتبي ، فوجدت المستخدم خارجا منها..


أدركت أن ما خشيت منه قد وقع ، وكان علي أن أتصرف بسرعة..


دخلت على نورا ، فطالعت في عينيها نظرة اتهام ، قالت بجرأة لم أتوقعها :


ـ لم يخطر لي أني أعمل في شركة تتاجر بالبضائع الفاسدة!


ماذا أفعل؟..


قلت لها متجاهلا :


ـ بضائع فاسدة!!.. آنسة نورا عم تتحدثين؟..


قالت محتدة :


ـ أتحدث عن المحاقن البلاستيكية التي انتهى تاريخ استعمالها ، وتنوي استيرادها..


ضحكت وأغلقت الباب..


قلت لها مهونا من جسامة الأمر :


ـ آنسة نورا أنت منفعلة أكثر مما يجب ، ماذا تتوقعين أن يحدث للمحاقن بعد انتهاء المدة المحددة للاستعمال؟..


إنها مواد بلاستيكية لا تؤكل ولا تشرب ، ولا ضرر من استعمالها بعد نهاية تاريخ الاستعمال..


لم تقنعها كلماتي..


قالت بمنطق بسيط ، لم أدر كيف أواجهه :


ـ إذا كان استعمال المحاقن البلاستيكية بعد انتهاء التاريخ المحدد لها غير ضار ،


فلماذا تسجله الشركات الصانعة على غلاف كل محقنة ، وتهتم به إلى هذا الحد؟..


احترت كيف أستوعبها؟!.. إنها عنيدة وذكية ، من النوع الصلب الذي لا يلين..


الحق أني احترمت جرأتها وشجاعتها ، لكن الموقف بالنسبة لي كان خطيرا وعصيبا..


أحسست أن هذه الفتاة الجميلة البريئة يمكن أن تزلزل بلسانها مستقبلي ،


وتحيل أحلامي إلى سراب ، في تلك اللحظة تذكرت فيلما كنت قد شاهدته في أمريكا ،


فأوحى لي الفيلم فكرة مجنونة.. تظاهرت بالندم..


قلت لها بلهجة استكانة وضعف :


آنسة نورا ، هل تصدقيني إذا بحت لك بسر؟..


نظرت إلي حائرة ولم تجب!..


تابعت قائلا :


ـ قد أبدو لكم أني مدير الشركة ذو الصلاحيات الواسعة ، لكن الحقيقة غير ذلك تماما..


حدقت بي أكثر وتابعت الإصغاء..


أردفت متنهدا :


ـ إنما أنا منفذ أوامر.. أنفذ كل ما يطلبه مني السيد عبد الغني صاحب الشركة..


السيد عبد الغني هو الذي وافق على صفقة المحاقن الفاسدة ، وهو الذي أمرني بكتابة الرد الذي في يدك..


ألقت نورا نظرة على الورقة التي في يدها ، وكأنها تراجع ما جاء فيها ثم قالت :


ـ لا يعنيني من هو الذي أمر بالرد أو نفذه..


كل ما يعنيني أني أمام جريمة لا يجوز السكوت عنها ، وواجبي أن أبلغ عنها السلطات..


ارتج قلبي خوفا ، لكني تماسكت وتظاهرت بالندم..


قلت في هدوء :


ـ هذا ما كان علي أن أفعله منذ زمن!..


لا أدري لماذا ظلت تنظر إلي في شك وحذر!..


وكدت أيأس من خداعها لولا أن قالت :


ـ كلامك يوحي بأن هناك جرائم أخرى من هذا النوع!..


أيقنت أن حيلتي بدأت تنطلي عليها ، فقلت :


ـ للأسف ، هذا صحيح وقد راودتني نفسي أكثر من مرة على إبلاغ الشرطة بما يجري في الشركة من مخالفات خطيرة ،


لكني جبنت ، خشيت أن يشملني القضاء بالعقاب ،


فأخسر سمعتي ومستقبلي..


هنا قالت نورا في حماس :


ـ يجب ألا تتستر على ما يجري


والقضاء ـ فيما أعلم ـ يسامح من يبادر إلى كشف المجرمين وفضح جرائمهم..


أدركت أن نورا قد ابتلعت الطعم..


فقلت متظاهرا بالتوبة :


ـ الحمد لله الذي أرسلك إلي في الوقت المناسب ،


كنت بحاجة إلى إنسان يشجعني على هذه الخطوة..


قالت وكأنها تختبر صدقي :


ـ ماذا تنتظر إذن ، هيا بنا لنقوم بواجبنا ،


ونبلغ السلطات ، هذا أمر لا يحتمل التأجيل..


قلت لها مستجيبا لفكرتها :


ـ أنت على حق ، هذا أمر لا يجوز تأجيله ، لكن..


سألت في شك :


ـ لكن ماذا؟..


أجبت على الفور :


ـ لكن القضاء لا يصغي لأي إدعاء ما لم يكن مؤيدا بالأدلة والإثباتات..


نظرت إلي قلقة ، وقالت:


ـ ألا تملك أدلة على ما تعرف؟..


ابتسمت وقلت :


ـ اطمئني ، لقد احتطت للأمر منذ البداية ، فاحتفظت بصور عن كل الصفقات المخالفة التي تورطت فيها الشركة ،


أحتفظ بها عندي في البيت ، سنعرج على البيت لإحضارها في طريقنا إلى قسم الشرطة..


وافقت ولكن ، بحذر ، لم تكن سهلة كما تصورت ،


ومضيت بها إلى المنزل ، وطلبت منها أن تدخل ، لكنها رفضت ، ماذا أفعل؟..


كان يجب أن تدخل إلى البيت بأية وسيلة ، لآخذ ما أردته منها !..


لم أيأس ، أسرعت إلى الداخل ، فحضرت كأس عصير ، ووضعت فيه المخدر ،


ثم طلبت من الخادمة التي تعمل لدي في الفيلا أن تذهب بالعصير إلى الآنسة نورا ،


ورحت أرقبها من نافذة مطلة على المدخل..


قدمت الخادمة العصير لنورا ، فأخذته بامتنان..


راقبتها وهي تتناوله رشفة رشفة.. أصبحت مهمتي الآن أسهل..


أحضرت كاميرتي ، ونزلت..


كانت نورا قد بدأت تفقد وعيها رويدا رويدا..


ويبدو أنها وهي تغادر وعيها ، قد فطنت لما بيَّتُه لها ، فحاولت أن تفتح الباب وتهرب ،


لكني منعتها دون أن أحتاج إلى قوة تذكر ،


ولم تلبث أن غابت عن الوعي ، فانطلقت بها إلى غابة بعيدة تقع في ظاهر البلد وهناك.....


وأطرق الدكتور شريف في خزي ، لم يجرؤ أن يصف نفسه وهو يتصرف كالوحوش المسعورة ،


نظرتُ إليه في تقزز ، وأنا أقاوم شعورا بالغثيان..


وقال المحقق وهو يحدجه :


ـ وهناك عرَّيتها ، واغتصبتها ، والتقطت لها مجموعة من الصور وهي في أوضاع فاضحة ، لتضغط بها عليها ،


وتهددها بإيصال الصور إلى أهلها وذويها إن هي باحت للسلطات بما عرفته عنك من غش واحتيال..


أجهش الدكتور شريف وانفجر باكيا ، وقد بان الذل والندم في تعابيره الشاحبة ، وأردف المحقق دون أن يرحمه :


ـ ولما أخذت نورا تطالبك بإصلاح غلطتك فصلتها من العمل ، وعندما علمت أنها أنجبت منك ،


هددتها بالقتل ، وعندما تمردت على تهديداتك الحقيرة ، وشكتك للسيد عبد الغني ،


خططت لقتلها ، وعندما شاهدتها مع الدكتور صلاح في المركز الثقافي خشيت أن تبوح بحقيقتك البشعة للدكتورة أحلام ،


التي كنت قد تقدمت لخطبتها من أبيها قبل أسبوع من افتتاح المعرض ،


فصورتها مع الدكتور صلاح ، واستدرجتها في اليوم التالي إلى مكان بعيد ،


وهناك أقدمت على طعنها بسكين ، وألقيت الصورة بجانب الجثة لتضلل العدالة..


هتف الدكتور شريف :


ـ أقسم لك بأني لم أقتلها حتى أني لم أكن أنوي اغتصابها لولا..


شمله المحقق بنظرة ساخرة ، وقال بهدوء :


ـ لولا ماذا؟


قال الدكتور شريف بنبرة كسيرة :


ـ كنت أنوي فقط أن ألتقط لها بعض الصور ،


ولكني عندما رأيتها عارية أمامي!... الله يلعن الشيطان...


قال المحقق هازئا وهو ينهض :


ـ حتى الشيطان يترفع عن ارتكاب ما أقدمت عليه ، دكتور شريف أنت متهم بالاغتصاب والقتل ، تفضل معي بهدوء..


No comments:

Post a Comment