Friday, March 12, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الحادي الثلاثون

سجلوا في أوراقكم.. نورا ماتت شهيدة.



نعم.. إنها الآن هناك.. في الجنة..


ترفرف بأجنحة من الطهر ، وترفل في ثياب من النور..


إنها الآن هناك.. في السماء..


تروي لخالقها قصة مآساتها الدامية الأليمة ، وتشكر إليه الذين ظلموها وافترسوها..


تريدون أن تعرفوا من هي نورا!..


سأقول لكم.. إنها شاهدة على جهل القرية وظلم المدينة..


شاهدة على القسوة التي استشرت فينا..


شاهدة على هذا الفساد الذي حول مجتمعنا إلى غابة ..


غابة من الوحوش التي لا ترأف أو ترحم..


وتهدج صوت المديرة ، فانفجرت باكية ، وغرق صوتها في خضم الانفعال..


رجاها المحقق أن تهدأ ، وأن تروي له كل ما تعرفه عن نورا ، فتماسكت وبدأت تدلي بشهادتها ،


قالت من بين الدموع :


ـ بدأت علاقتي بنورا منذ أشهر.. عندما حضرت إلي وطلبت مني أن أسمح لها بالعمل في الملجأ ،


اعتذرتُ.. لم يكن من الممكن أن أوافق ، فميزانية الدار محدودة ،


ونحن لا نكاد نوازن بين ما يأتينا من منح وتبرعات ، وبين ما نقدمه للأطفال الأيتام من خدمات ،


لم يقنعها اعتذاري ، كانت المسكينة حزينة ، وكانت نظراتها كسيرة ،


وملامحها تدعو للرثاء ،قالت بأنها تحب ممارسة الأعمال القريبة من الأطفال ورجتني أن أحقق لها رغبتها ،


لم أستطع ، فكررت اعتذاري وشرحت لها ظروف الدار ، لكنها ألحت في الطلب ،


ورجتني متوسلة أن أساعدها ، رق لها قلبي..


قلت في نفسي لعلها في ضائقة مادية تدفعها للبحث عن عمل ، ووجدت من واجبي أن أساعدها..


سألتها عن مؤهلاتها ، فأخبرتني بأنها طالبة لغة إنكليزية ، لكنها تركت الجامعة قبل التخرج لأسباب لم تفصح عنها!..


تذكرت صديقة قديمة تملك روضة أطفال ، فعرضت على نورا أن تذهب لتعمل لديها مدرسة ،


ووعدتها بأني سأزورها بكتاب توصية يمهد لها الأمور.. قدرت أنها ستفرح لهذه المبادرة ،


لكنها وجمت ، وبدت الخيبة في عينيها ، كانت مصرة على العمل في الدار!..


هنا ساورتني الشكوك!! ما معنى هذا الإصرار؟


من المهم أن أذكر هنا أن نورا جاءتني بعد يومين فقط من تحويل الطفلة اللقيطة إلينا ،


وكانت جريدة الأيام قد اهتمت بقصة الطفلة اللقيطة ، وتابعت أخبارها ،


فذكرت أنه قد تم نقل الطفلة من المستشفى ابن النفيس إلى دار الحنان للأيتام..


في الحقيقة.. لم تكن نورا أول أم تلح عليها أمومتها ،


فتأتي إلى الدار لتحوم حول طفلها أو طفلتها التي تخلت عنها لسبب أو لآخر ،


وأردت أن أختبر نورا..


قلت لها : إذا كنت مصرة على تقديم المساعدة لأطفال الملجأ ،


فليس أمامك سوى فرصة العمل التطوعي في الدار ، هل تعملين متطوعة بلا أجر؟


انفرجت أساريرها فجأة ، ودمعت عيناها من شدة الفرح وأبدت حماسا بالغا للفكرة!!


ازدادت شكوكي لكني أخفيتها!..


أظهرت إعجابي بحماسها وأريحيتها ، واهتمامها بالأطفال اليتامى ،


وطلبت من المسؤولة عن المشرفات أن ترتب معها الزمان والمكان الذي ستتبرع فيه بجهودها ،


وأوصيت المسؤولة بأن تترك لنورا حرية الاختيار..


ومر أسبوع.. كنت أراقب خلاله تصرفات نورا وأحللها بهدوء وروية..


لاحظت أنها اختارت العمل في جناح الأطفال الرضع ،


وأنها كانت تقضي في الدار أوقاتا طويلة تزيد أحيانا عن دوام المشرفات المنتظمات لدينا ،


ولاحظت أيضا أنها كانت تسبغ عطفا واهتماما خاصا على الطفلة بارعة ،


على درجة جعلت طبيب الملجأ يشكو من استدعاء نورا له ثلاث مرات خلال الأسبوع


ليتفقد الطفلة بدون سبب واضح!


ومر أسبوع آخر.. علمتُ خلاله أن نورا قد استدانت من إحدى الموظفات مبلغا من المال!..


إذا كانت بحاجة إلى المال ، فلماذا تتطوع بالخدمة في الدار ، وترفض فرصة العمل المأجور في مكان آخر؟..


وأصبحت الصورة لدي واضحة جلية..


استدعيت نورا ذات صباح ، وأثنيت على بذلها وتفانيها ، قلت لها بعد أن شاع بيننا جو من الألفة والمودة :


"اعلمي يا ابنتي بأن الصداقة التي توطدت بيننا صارت تسمح لي بالإطلاع على سرك الذي تخفينه عني ،


فأرجو أن تبوحي لي بقصتك الحقيقية فقد أستطيع مساعدتك"..


بوغتت بكلامي ، ارتبكت وتلعثمت ، تجاهلت وأنكرت ، ثم انخرطت في بكاء مرير..


وأجج الحديث مشاعر المديرة ، فبكت وهي تتذكر بكاء نورا بين يديها ، فتركها المحقق تفرغ انفعالاتها ،


وتشاغل بمراجعة آخر ما دونه كاتبه من أقوال ،


قال المحقق لكاتبه:


ـ إياك أن تغفل عن حرف ، هذه القضية على ما يبدو معقدة ومتشعبة الخيوط!


أومأ الكاتب برأسه مستجيبا لملاحظة سيده ، وانكب على أوراقه استعدادا لالتقاط كل كلمة تصدر عن المديرة..


وتابعت المديرة سرد أقوالها ، فوجدتُ تطابقا كبيرا بين ما روته لي نورا عن حياتها ،


وبين ما روته مديرة الملجأ ، والتفت المحقق إلي في نظرة عابرة ـ كمن يعترف بصدق أقوالي ،


فلم أحفل بنظرته ، لأن اهتمامي كان مركزا على رواية المديرة ،


باحثا عن الحلقة المفقودة التي ضاعت نورا قبل أن أعرفها..


ووصلت المديرة إلى الفصل الضائع من الرواية ،


فقالت :


ـ ... ثم عملت نورا في شركة عبد الغني الذهبي ، وهناك بدأت مأساتها الحقيقية..


لم أستطع صبرا ، أفلتت مني غضبة كظيمة ، وهتفت بنبرة المتألم المظلوم الذي وجد دليلا على براءته :


ـ ألم أقل لكم.. إنه عبد الغني الذهبي.. رمز المصائب والبلايا!..


إنه يقف خلف كل جريمة ببصماته الملوثة..


رائحته الكريهة تفوح منه على الرغم من كل العطور التي يغتسل بها ليزور حقيقته..


حدجني المحقق بطرف عينيه احتجاجا على تسرعي في الكلام ، بينما قالت المديرة في محاولة للتوضيح :


ـ عفوا.. يبدو أن هناك التباسا في الأمر..


صحيح أن صاحب الشركة التي عملت فيها نورا هو السيد عبد الغني الذهبي ،


لكن الذي اغتصب نورا وكان وراء مأساتها هو الدكتور شريف مدير الشركة!


ـ الدكتور شريف!!..


أفلت مني هذا التساؤل رغما عني..


هذه أول مرة أعرف فيها أن لشركة عبد الغني الذهبي مديرا يدعى الدكتور شريف!


والتفت إلي المحقق غاضبا ، وقال بنبرة وشت بنفاد الصبر :


ـ دكتور صلاح.. لقد اصطحبتك معي على مسؤوليتي الشخصية ، إيمانا مني ببراءتك ،


واحتراما لمشاعرك التي جرحناها باعتقالك هذا الصباح ، لكني لا أسمح لك أبد أن تتدخل في التحقيق ، أو تفسد مجراه..


انسكبت كلمات المحقق علي كشلال من الماء البارد ،


وبعثت في نفسي ارتياحا عميقا رغم اللهجة الجافة التي حملتها ،


المحقق مقتنع ببراءتي شخصيا على الأقل ، ونظرت إليه بامتنان وإذعان.. وصمت..


لم يكن أمامي سوى الصمت إن أنا أردت أن أعرف بقية هذه القصة التي حشرتني بين خيوطها المتشابكة..


وعاد المحقق باهتمامه إلى المديرة..


ـ قُلتِ إن الذي اغتصبها يدعى الدكتور شريف؟..


ـ نعم.. الدكتور شريف الطيب ، المدير التنفيذي لشركة الذهبي..


ـ أجل..


ـ وحملت منه؟


ـ نعم.. وقد طالبته بأن يتزوجها ليجنبها الفضيحة ،


لكنه رفض ، واختلق حولها الأقاويل , ثم فصلها من العمل..


ـ وعبد الغني الذهبي.. هل علم بالأمر؟


ـ علم عندما شكت له نورا الدكتور شريف..


ـ ماذا كانت ردة فعله؟.


ـ لم يصدقها.. طردها من مكتبه ، وهددها بأنه سيبحث عن أهلها ،


ويحدثهم عن سوء أخلاقها ، إن هي كررت شكواها أو ذكرت شركته وموظفيها بسوء..


ـ لماذا يظن عبد الغني الذهبي أن نورا فتاة سيئة الأخلاق؟..


ـ لعل الدكتور شريف وسوس له بهذه الفكرة..


ـ لماذا لم تتقدم نورا بشكواها إلى العدالة؟..


ـ خافت من الفضيحة..


ـ الحمل أمر لا يمكن إخفاؤه ، والفضيحة كانت وشيكة على كل حال..


ـ لقد احتاطت للأمر..


ـ كيف؟..


ـ استطاعت نورا أن تجد غرفة عند سيدة عجوز تقيم في أحد الأحياء الفقيرة..


كانت العجوز طيبة وحكيمة ، فعطفت عليها ، وتفهمت ظروفها..


وهكذا عاشت نورا في كنفها آمنة مستورة ، حتى وضعت وأنجبت طفلتها..


تفكرالمحقق هنية ، ثم قال :


ـ إذا كانت نورا قد وجدت المكان الآمن الذي تربي فيه طفلتها ، فلماذا تخلت عنها؟


أجابت المديرة :


ـ بعد أن وضعت نورا طفلتها ببضعة أشهر اختار الله العجوز الطيبة إلى جواره ،


وجاء الورثة يطالبون بمنزل فقيدتهم ، فاضطرت نورا للرحيل ،


وخرجت من مأمنها هائمة تائهة لا تعرف إنسانا تلوذ به ، أو مكانا تأوي إليه ،


واستبد بها اليأس ، فقررت أن تتخلص من الحياة ، وكان عليها قبل ذلك أن تجد لطفلتها من يرعاها ،


فهداها فكرها إلى وضع الطفلة أمام أحد المساجد ، ليلتقطها أحد الصالحين ، فيتولى أمرها ،


واختارت مسجدا تعرفه ، فتسللت إليه أثناء صلاة الفجر ، ووضعت طفلتها في حديقته ، ثم توارت بعيدا ، وجعلت تنتظر..


وخرج المصلون من مسجدهم ، فترامى إلى سمعهم بكاء طفل ، فهرعوا إلى مصدر الصوت دهشين ،


فوجدوا الطفلة ملفوفة بدثارها ، وهي تمزق بصراخها هدأة الفجر ، وبادر أحدهم ،


فحمل الطفلة ومضى بها إلى شرطة الحي ليضع القضية بين أيديهم ، فقام هؤلاء بدورهم باتخاذ الإجراءات المعتادة ،


وكانت الخطوة الأولى تحويل الطفلة إلى المستشفى للاطمئنان على صحتها ، وتقدير وزنها وعمرها ، ومعرفة زمرتها الدموية..


وكانت نورا تتابع طفلتها وهي تنتقل من يد إلى يد ، وعندما رأت الشرطي يتجه بها إلى المستشفى طار صوابها ،


وقلب الخوف والقلق كيانها ، وأخذت تحوم حول المستشفى كالحمامة الكسيرة التي سرق العابثون صغارها ، ولم تصبر ،


فصممت أن تطمئن على ابنتها ، لكنها كانت بحاجة إلى عذر تدخل به المستشفى في تلك الساعة المبكرة ،


ولم تلبث أن تناولت أحد دبابيس الشعر التي تشكل بها شعرها ، وأحدثت بطرفه الحاد جرحا في يدها ، لتتذرع به ،


وقد كان قدرها أن يستقبلها الدكتور صلاح ، ويعالجها..


وهكذا حفظ الدكتور صورتها ، واستطاع أن يربط بين تصرفاتها عندما صادفها هنا في الملجأ..


قال المحقق بلهجة المتسائل :


ـ هذا يعني أن نورا لم تقدم على الانتحار!


ـ هذا ما حصل.. كانت مشاعر الأمومة عندها أقوى من اليأس ،


فقررت أن تبقى من أجل طفلتها البريئة ، وتكابد في سبيلها كل المصاعب والآلام..


ـ لكن الذي التقطوا الطفلة وجدوا معها مبلغا من المال!.. من أين حصلت نورا على المال؟


ـ من الدكتور شريف..


ـ الدكتور شريف؟!..


ـ نعم.. فعندما ذهبت نورا إلى الدكتور شريف ترجوه أن يتزوجها ويجنبها الفصيحة ،


رفض كما ذكرت لكم في البداية ، فأخبرته بأنها حامل ، وطلبت منه أن يتحمل مسؤوليته نحو الجنين الذي أثمرته جريمته..


لكنه أمعن في الرفض ، وطلب منها أن تسقط جنينها ، وعرض عليها مبلغا كبيرا من المال يغطي تكاليف عملية الإجهاض..


ظنت نورا في البداية أن الإجهاض قد يكون مخرجا معقولا من الفضيحة التي تنتظرها ، فأخذت المبلغ ووافقت واحتفظت بالمبلغ ،


وقررت أن توفره للطوارئ ، وعندما تخلت عن طفلتها ، وضعت المبلغ معها حتى يستعين به من يجدها على رعايتها..


قطب المحقق متفكرا ، واستغرقته برهة من التأمل ، ثم ما لبث أن قال للمديرة :


ـ بقيت نقطة غامضة بحاجة إلى توضيح..


ـ ما هي؟..


ـ أقوالك تفيد بأن نورا كانت فتاة ذات ضمير يقظ ، وسلوك مستقيم..


ـ هذا ما أشهد به ، وأصر عليه..


ـ كيف تكون فتاة بهذا السلوك ، ثم تسمح لشاب مستهتر كالدكتور شريف باغتصابها؟


ـ اغتصبها عنوة!


ـ عنوة؟


ـ أفقدها وعيها ، ثم اغتصبها..


ـ أريد القصة بالتفصيل..


وشرعت المديرة تروي قصة اغتصاب نوار بالتفصيل..


كنت أصغي إليها بألم ، وأنا أغالب مشاعر الغضب والثورة التي اجتاحتني كالإعصار..


لم أتوقع أن في العالم نفوسا قذرة بهذا الخبث وهذه الدناءة!


تذكرت فلما وثائقيا شاهدته عن التكاثر عند الحيوانات..


في تلك اللحظة ، لم أجد فرقا كبيرا بين حياة الغابة وحياة المدينة!...


كم يبدو الإنسان تافها وحقيرا عندما يتخفف من إنسانيته ويتحرك من الحياة كحيوان البراري..


يأكل حتى التخمة ، ويمارس الجنس مع أي عابر ، ثم يسترخي ، ويغط في نوم غليظ ،


لا توقظه منه إلا الرغبة والجوع..


ثمة معلومات مهمة أقلقتني..


ورد في كلام المديرة أن الدكتور شريف كان قد تقدم لخطبة أحلام قبل أسبوع من مقتل نورا ،


وهذا ما دفع نورا للذهاب إلى المركز الثقافي يوم افتتاح معرض أحلام ،


فقد كانت تريد أن تفضحه أمام الفتاة التي يفكر بالزواج منها ، وبذلك تنتقم من الدكتور شريف ، وتزلزل أحلامه ،


ما أقلقني وأقض مضجعي ، أن المديرة قد ذكرت في حديثها أن والد أحلام قد وافق على الخطبة ،


ووزع الحلوى في شركته بهذه المناسبة ، أيكون قد بنى موافقته على موافقة أحلام؟!..


وأحسست بشيء غامض يعتصر قلبي داخل قبضته ، لا أستطيع أن أرى أحلام زوجة لغيري كائنا من كان!..


فكيف وأنا أراها تُزَفُّ إلى وغد؟!!!...

No comments:

Post a Comment