Friday, March 12, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الثلاثون

انتظر هنا..



وغاب الضابط ساعة ثم عاد..


ـ تعال معي..


مضى أمامي بخطوات رشيقة ، فتبعته حانقا متأججا كمرجل وتحسست مكان القيد كمن ابتلي بالوسواس ،


مازلت أشعر به يلتف حول معصمي كالأفعى ،


رغم أن الجندي الطيب الذي أمر بإحكامه قد فكه منذ أن وصلنا إلى دائرة التحقيقات الجنائية ،


سيبقى أثرك القذر أيها القيد الظالم عالقا في يدي إلى الأبد..


يذكرني بالظلم الذي نال مني وأثخن نفسي بالجراح ، وصعد الضابط أمامي درجا بعد درج ،


وظل يرقى حتى وصل إلى الطابق الرابع ، فانعطف ذات اليمين وقادني إلى أقصى الممر ،


ثم دخل قاعة واسعة يقف ببابها حارسان..


ـ اجلس هنا..


جلست ، وأنا ألوك القلق المر ، والهواجس السوداء ، طرق الضابط باباً في صدر القاعة ، ثم دلف بهدوء ،


وأغلق خلفه ، شيء غامض لا أدري كنهه انبثق في صدري فجأة ، ومد ذراعه القوية كالأخطبوط ،


وراح يضغط بها على أنفاسي حتى كاد أن يزهقها ،


وشعرت بعجلة الحياة داخلي وهي تتباطأ حتى كادت تتوقف عن الدوران ،


وكأنها آلة انحسر عنها التيار الذي يمدها بالطاقة ،


ونهضت كغريق ينتشل نفسه من الماء بحثا عن دفقة هواء تمنحه الحياة ،


ورآني أحد الحارسين أنهض في حركة مفاجئة ، فتحفز للأمر ويده على قبضة مسدسه المتدلي فوق وركه الأيمن ،


وانضم إليه صاحبه في استنفاره الطارئ ، وجعلا يحدقان بنظرات متوجسة ترصد ما قد سآتي به من فعل ،


لكن نظراتهما الصارمة المتجهمة سرعان ما تراخت وهما يراياني أتنفس بعمق وأخفي وجهي خلف كفين متشنجتين ،


شدت الآلام أعصابها حتى كادت تمزقهما ، وتبادلا نظرة قال بعدها الأول :


ـ هل تشكو من شيء؟!..


نظرت إليه بعينين مغرورقتين تفيضان ألما واستعلاء على أدنى مساعدة ،


ثم تهالكت في مكاني مرهقا كئيبا أقاوم الظلمة التي شاعت داخلي كالعمى..


ولبثت كذلك دقائق قليلة خرج بعدها الضابط وهو يحمل رزمة من الأوراق ، ثم أقبل نحوي قائلا:


ـ سيستدعيك المحقق بعد قليل..


ـ أريد أن أعرف لماذا أنا هنا؟!..


ـ لا تستعجل.. ليس هناك ما يسر!


ـ أتعذبون الناس بالقلق؟..


رماني بنظرة ساخرة ، ثم مضى غير مكترث ، وتركني أغوص في قلقي حتى القاع..


ومر وقت ليس بالقصير ، استحضرت خلاله ذكريات الماضي والحاضر ،


وخنقت فيه كل الآمال دفعة واحدة ثم ألقيتها في وهدة عميقة من اليأس ،


وحدقت في الباب الموصد بنظرات متوقدة كالنار ، تريد لو تحرقه بلهيبها ،


لتعرف من هو المحقق الذي سيمسي مصيري في يده!..


وخرج المحقق.. أطل كالشمس المحرقة في ظهيرة آب..


نظراته صارمة ، ووجهه غارق في الجد ، أشار إلي بسبابته ،


ثم استدار متجها نحو مكتبه ، تقدمت خلفه بخطى وئيدة ، وكأني أخوض في حقل ألغام..


ـ تفضل..


جلس وجلست.. تفحصني بنظراته برهة ، ثم تناول سيكارة ، فأشعلها ،


وراح ينفث دخانها وهو صامت جامد يعيث بنظراته المرتابة في وجهي المربد..


أهلا وسهلا.. ماذا تريد مني أيها المحقق الأريب؟


خرج عن صمته أخيرا.. قال بنبرة مباغته:


ـ أنت قلق!..


ابتسمت ساخرا ، وتساءلت:


ـ كيف لا أقلق؟


ـ البريء لا يقلق؟


ـ في مجتمع يحترم الفرد ، لا يمكن للبريء أن يقلق..


ـ أأساء إليك أحد؟


ـ وهل تريد إساءة أكبر من أن أساق أمام الناس مكبلا وكأني قاتل أو قاطع طريق؟!


ـ من يدري؟ قد تكون قاتلا؟


أطاحت كلماته بتماسكي وهدوئي.. انفجرت من شدة الغيظ ، وهتفت في وجهه:


ـ لا أسمح لك بإهانتي كائنا من كنت! أنا مواطن شريف ، وأعرف حقوقي جيدا..


ابتسم كالهازئ ، وقال دون أن يهتز:


ـ كل الذين يجلسون مكانك يقولون كلامك..


الفرق الوحيد هو أني أحقق الآن مع متهم مثقف.. مع طبيب!


قلت ، وقد نفد صبري:


ـ أريد أن أعرف لماذا أنا هنا؟


ـ لا نعرفك من قبل حتى نمزح معك..


ـ ألا تريد أن تبدأ التحقيق؟


ـ ليس قبل أن تهدأ.


ـ سيدي الكريم أنا هادئ ، هادئ أكثر مما تتصور..


ـ ملامحك تقول غير هذا..


ـ لا أعتقد أني في نزهة..


ـ هل تعرف امرأة تدعى نورا ؟..


خفق قلبي بشدة!.. نورا؟..


لم يخطر ببالي أن اعتقالي بسبب نورا!..


أيمكن أن تكون نورا قد اتهمتني بشيء؟!..


وأجبت في قلق:


ـ نعم.. أعرفها..


ـ ما علاقتك بها؟


ـ علاقتي؟ لا علاقة لي بها!..


ـ كيف تعرفها إذن؟


ـ أعرف شكلها ، واسمها.. أعرف جزءا من قصتها لكن ، لا علاقة لي بها!..


ـ كيف عرفت قصتها..؟


ـ روتها لي..


ـ هل تصدق أن امرأة في الدنيا تروي قصة حياتها لإنسان لا تعرفه؟


ـ لا طبعا.. لكن..


ـ لكن ماذا؟..


لذت بالصمت هل أبوح للمحقق بقصة الطفلة اللقيطة؟


أم أحتفظ بسرها حتى أعرف نوع التهمة الموجهة إلي؟


ولم يترك لي المحقق فرصة للتفكير ، داهمني قائلا:


ـ صمتك لن يفيدك ، نحن نعرف كل شيء..


ـ كل شيء؟! مثل ماذا؟.


ـ نعرف أنك على علاقة مع نورا!


ـ علاقة!.. علاقة من أي نوع!!..


ـ علاقة جنسية طبعا..


ـ هذا غير صحيح..


ـ لا تنكر.. ثمة أدلة..؟


ـ أنت لا تملك أي دليل..


زفر سحابة جديدة من سيكارته ، ثم قال وهو يكتم لهيبها في قعر صحن السجائر:


ـ حسنا..


ثم أردف وهو يلقي إلي بصورة ملونة استلها من درجه على حين غرة :


ـ أليست هذه صورتك؟


بُهِتُّ وأنا أرى الصورة ، إنها صورتي أنا ونورا ،


عندما كنت جالسا أصغي إلى قصتها في المركز الثقافي!..


من هو الذي التقط هذه الصورة؟..


أيقف عبد الغني الذهبي خلف هذه الجريمة أيضا؟..


إني أشم رائحته النتنة من خلال الصورة!..


هذا أسلوبه في العمل.. التلفيق والتزوير والابتزاز!


ودفع إلي المحقق ورقة مطوية من أوراق الرسائل الملونة ، نظرت إليه في دهشة ،


ثم فتحت الرسالة فوجدت فيها كلمات مطبوعة على الآلة الكاتبة ، وأذهلني ما جاء فيها..


"عزيزتي نورا ، سنلتقي الليلة في منتزه الغابة ، أرجو ألا تتأخري لأني أنتظرك على أحر من الجمر ،


حبيبك إلى الأبد الدكتور صلاح الحكيم.."


ولم أكد أنتهي من قراءة الرسالة الكاذبة ، حتى داهمني المحقق باتهام جديد ،


قال بنبرة صاعقة ، وكأنه يهوي على بالضربة القاضية:


ـ دكتور صلاح.. أنت متهم باغتصاب وقتل المغدورة نورا..


وقفت فجأة كمن قذفه بركان.. ثم هويت على الكرسي ككرة ملتهبة تدحرجت من شاهق ، همست بصوت واهن كالموت:


ـ أنا؟!!!....


هتف المحقق وهو يتابع هجومه دون رحمة:


ـ نعم اغتصبتها وضحكت عليها ، وعندما طالبتك بالزواج رفضت ،


ثم عمدت إلى قتلها حتى لا تفضح غلطتك وتهدد سمعتك البراقة التي تخدع بها الناس.. إياك أن تنكر..


همست وأنا أصارع مشاعر الصدمة بأعصاب عارية:


ـ هذا ليس صحيحا ، ولكن..


ـ كل الأدلة ضدك.. الصورة صورتك.. والرسالة تفضح طبيعة العلاقة التي كانت تجمعك بالقتيلة..


ـ ولكن متى قتلت؟..


ـ أجب ولا تراوغ..


ـ الصورة صورتي ، لكن الرسالة ملفقة!


ـ ما دليك؟.


ـ أنا لا أملك آلة كاتبة ، ولا أستعملها في تدوين رسائلي..


ـ لكنك تستطيع أن تحصل على آلة كاتبة بألف طريقة..


ـ ولماذا أطبع رسالة كهذه على الآلة الكاتبة؟..


ـ لتنفي نسبة الرسالة إليك.. فيما لو وقعت في يدنا.. وتدعي أنها ملفقة..


لذلك تجنبت أن تكتب الرسالة بخط يدك ، ولم تترك على ورقة الرسالة أية بصمات تدل عليك..


ـ أنت تبالغ في الاستنتاج..


ـ أنصحك بالاعتراف..


ـ الآن عرفت كم جلس مكاني من المظلومين!..


ـ إذا كنت بريئا ، فدافع عن نفسك..


ـ إليك دفاعي إذن ، وستعلم أني بريء مما تقول..


ورويت له قصة نورا من أولها إلى آخرها..


منذ أن جاءت خلف طفلتها إلى المستشفى لتطمئن عنها ، إلى أن ضاعت مني في أزقة المدينة..


وسألني المحقق عن السبب الذي جعلني أحزر اسم الشركة التي كانت تعمل فيها نورا دون أن تذكره لي


، فحدثته عن تجربتي المريرة مع عبد الغني الذهبي ،


وكيف عرض علي التواطؤ معه لتسويق أغذية فاسدة للأطفال ،


ما جعلني أشك في أنه هو نفسه الذي يقف وراء صفقة المحاقن الفاسدة التي حدثتني عنها نورا..


واستغرقت طويلا في تحليل شخصية الذئب الأنيق عبد الغني وأساليبه الملتوية ،


واتهمته بأنه وراء الصورة التي التقطت لي سرا ،


وأنا أجلس مع نورا في المركز الثقافي ،


وأبديت شكوكي في أن عبد الغني الذهبي يقف وراء حادثة مقتل نورا بشكل أو بآخر ،


لكني لم أجرؤ على إبلاغ المحقق بما حدثتني به أحلام عن ضلوع أبيها في حادثة العمارة المنهارة ،


احتراما لمشاعرها ، وصونا للسر الذي باحت لي به دون سائر الناس..


وكان المحقق قد استدعى كاتبا ليسجل اعترافاتي ، فدون أقوالي حرفا حرفا ،


وعندما انتهيت من الحديث رفع الرجل رأسه في إعياء ،


وبسط يده فوق الأوراق ليريحها من عناء الكتابة المتلاحقة ، فقد كان حديثي مسهبا وطويلا..


ورانت فترة من الصمت كان المحقق خلالها غارقا في خواطره..


بدت لي ملامحه وكأنها تبعث على الارتياح ،


وقد يكون ذلك لأني تخففت من بعض الأسرار التي كانت تؤرق صدري ،


أو لعل المحقق قد عاد إلى طبيعته بعد أن مثَّل دور الهجوم ليفتت صمتي ،


ويدفعني للانهيار أمام اتهامه السافر ، فأعترف بالحقيقة ،


لكنه الآن ، بعد أن سمع مني كل هذه التفاصيل ،


لابد أنه يحاول فرز الخيوط المتشابكة ، ليصل إلى الخيط الذي يوصله إلى الحقيقة..


نهض المحقق فجأة ودار حول كرسيه ،


ثم قال يملي على الكاتب وهو يستند بكلتا يديه على الكرسي:


ـ هذا ، وقد تقرر إجراء تحقيق عاجل مع مديرة ملجأ الحنان للأيتام ،


حيث نظن بأنها تملك معلومات هامة حول المجني عليها


ـ نورا سنديان ـ


التي اكتشفت جثتها فجر هذا اليوم المدون تاريخه أعلاه..


ثم رفع المحقق سماعة الهاتف واستدعى أحد معاونيه ،


وطلب منه أن يرافقه في زيارة إلى ملجأ الأيتام..


هتفت وأنا أرى المحقق ينطلق بحماس:


ـ وأنا؟


نظر إلي متفكرا ، ثم قال بنبرة حاسمة:


ـ تعال معي..


No comments:

Post a Comment