Friday, March 5, 2010

البحث عن امرأة مفقودة - الفصل التاسع

ضحك الأستاذ سعيد وقال وهو يسترخي بجسده فوق كرسيه الجلدي الدوار:



ـ هل تقومان حقا بحل لغز هذه الطفلة؟


حاول هاني أن يبرئ نفثه وقد أحس في كلام الأستاذ سعيد سخرية من خطوة كهذه ، قال وهو يشير إليَّ:


ـ إنه الدكتور صلاح ، هو صاحب الفكرة..


كرر الأستاذ سعيد سؤاله لي كمن فوجئ بمعرفة شيء لا يتوقع:


ـ هل أنت مهتم فعلا بحل لغز الطفلة إلى هذا الحد يا دكتور صلاح؟


قلت وأنا مندهش للسؤال:


ـ نعم هل هي ذلك خطأ؟


فرقعت ضحكة الأستاذ سعيد في أرجاء الغرفة الأنيقة ، ثم قال وهو يعبث بيده في جيوبه باحثا عن شيء:


ـ لا أصدق..


ـ ما الذي لا تصدقه؟


لا أصدق أن في شباب اليوم من يفكر مثلك ، كنت أظن أن زماننا قد انتهى ، ولكن..


ها أنت تذكرني بشبابي..


همست في حيرة:


ـ أستاذي الكريم ، أنا لا أفهمك!..


عثر الأستاذ سعيد عما كان يبحث عنه ، فأخرج غليونه الأسود الفاخر وقال ، وقال وهو يحشو بالتبغ الذي فاحت رائحته في أرجاء المكان:






ـ قصدت أن أقول بأن موقفك هذا ينسجم تماما مع روح الشباب المتوثبة المشبعة بالفضول ، الشباب المسؤول المتحمس قضية نبيلة..


شبابنا اليوم للأسف مصاب بالإحباط المزمن ، ومن أخطر أعراض هذا المرض اللامبالاة التي ينظر بها شبابنا إلى الأمور والأحداث التي تجري حولنا ، وأنت يا دكتور صلاح ظاهرة صحية مبشرة..


عندما كنت في سنك كنت هكذا مثلك ، تثيرني الأحداث ، وتدفعني للمبادرة ، كنت أحب أن يكون لي موقف من كل حدث مهما كان صغيرا ، وكنت أحب دائما أن أترجم الموقف إلى فعل..


قال هاني ، وقد أحب أن يشمله الأستاذ سعيد بمدحه:


ـ في الحقيقة ، لقد أثارنا لغز الطفلة اللقيطة ، وأثرت فينا قصتها المحزنة ، فأتينا نطلب مساعدتك في معرفة الأشخاص الذين يقفون وراء هذه الجريمة..


قال الأستاذ سعيد في صراحة تشف عن مدى العلاقة الحميمة التي تربطه بوالد هاني:


ـ اسكت أنت ، أنت انتهازي كأبيك ، منذ قليل كنت تتبرأ من اهتمامك بالطفلة ، وها أنت تدعي الآن أن لغز الطفلة قد أثارك وحدا بك لأن تحضر إلى هنا!..


أقطع ذراعي إن لم يكن الدكتور صلاح هو الذي قادك إلى هنا..


ابتسمت لكلمات الأستاذ سعيد التي لا تخلو من الدعابة ، وأدركت أنه إنسان ذكي قد عركته التجارب وحدت نظرته للناس..


سأل الأستاذ سعيد هاني وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة:


ـ أما زال أبوك صديقا لوزير التموين والتجارة؟


ـ نعم ، علاقتهما طيبة كما تعرف!..


ـ قل لأبيك ألا يسرف في الولائم ، فمعالي الوزير على وشك الإقالة ، هناك تعديل وزاري سوف يشمله عما قريب..


ابتسم هاني في خبث ولاذ بالصمت ، إنه يدرك ما رمى إليه الأستاذ سعيد ، فقد حدثني كثيرا فيما مضى عن التكتيكات الوصولية التي يتبعها أبوه من أجل تطوير أعماله التجارية ، والعلاقات الحميمة التي يسعى لإقامتها مع المسؤولين طمعا بمساعدتهم..


قال الأستاذ سعيد بعد أن أرسل تنهيدة طويلة:


ـ هذا زمان مختلف ، زمان عجيب ينطوي على تناقضات صارخة مثيرة ، في هذا العصر الذي نعيشه ليس هناك مكان للحقيقة ، لا قيمة للمبادئ والمثل ، لا معنى لأن تكون إنسانا..


ثم بعد ابتسامة ساخرة:


ـ لأنك إذا أردت أن تكون إنسانا فستكون الإنسان الوحيد وسط مجتمع من الذئاب..


لكنه استدرك فجأة وقال:


ـ لا أقصد أنك الإنسان الوحيد ، أبدا.. فمجتمعنا لا يخلو من النماذج الخيرة الرفيعة ، بل عنيت إنك إذا أردت أن تكون إنسانا نبيلا ، فسوف تبدو غريبا ، سينظر إليك المجتمع وكأنك كائن عجيب قادم من عالم منقرض ، ستكون منبوذا لا يكاد يلتفت إليك أحد ، وستعيش غربة قاتلة..


وليت الأمر يقف عند هذا الحد!.. إذن لهان الأمر ، لكن المصيبة أن الناس لن يتركوك في وحدتك تمارس النظافة التي ترتاح إليها ، بل سيلومونك ويثبطونك ويحذرونك من مسلك النبيل ، لأن قدرتك على السمو ستعريهم وتكشف ضعفهم ، سيتهمونك بالسذاجة والمثالية الفارغة..


هكذا نحن اليوم ، نسمي النبل والتطوع والإحساس بالآخرين والالتزام بالقيم مثالية فارغة ، وتطلق على هذا النوع من السلوك "التعامل الرومانسي مع الواقع"..


أنا صرت أكره كلمة الواقع هذه ، لقد أصبحت تعني الهزيمة ، تعني الاستسلام لهذا لفساد الذي يجتاحنا كالطوفان..


التفكير الواقعي قاموسنا الملوث أصبح يعني الانصياع للواقع المريض ، واتخاذه مقياسا للسلوك والتصرف ، صار يعني أن تكون كما يريد هذا الواقع لا أن يكون الواقع كما تريد..


حتى تكون واقعيا في هذه الأيام يجب أن تكون (شاطرا)..(ملحلحا)..(فهلويا).. يجب أن تكون ذئبا.. نعم ، فهذا العصر عصر الذئاب!..






كان الأستاذ سعيد يتحدث بمرارة ، وصمت لحظة ثم تابع ، وهو يهز غليونه الذي كان يحتضنه داخل قبضة يده اليسرى:


ـ صار لي في هذه المهنة أكثر من أربعين عاما ، أربعين عاما وأنا أراقب المجتمع ، وأسجل ملاحظاتي عليه ، كنت ألاحظ بداية الانهيار وأقاومها بقلمي ، عاصرت الانهيارات والهزائم الكبرى التي تعرضت لها الأمة ، فوقفت أعري أسبابها وأحذر من آثارها ، كنت أؤمن أن الحياة موقف ، وكانت مواقفي واضحة صريحة..


ثم ماذا كانت النتيجة؟ حاربتني الدنيا.. حاصرني الجوع.. خنقتني الغربة وذات يوم تقهقرت ، وقعت أسيرا لليأس ، فكسرت سيفي وركعت.. وأجرت قلمي ، وصرت أكتب ما أريد وما لا أريد ، وأصفق للجميع..






كان في كلام الأستاذ سعيد نوع من البوح.. شيء من كالاعتراف ، وتأملت الشيب الذي توج رأسه ، فأدركت أن تحت كل شعرة بيضاء قصة حزينة ، أو تجربة مريرة ، وشعرت بالرثاء لرجل يروي قصة سقوطه أمام التحديات..


"هل يمكن أن تكون هذه نهاية المخلصين؟!"..


شعرت بالفزع من أمام هذا التساؤل الذي داهمني فجأة ، وأنا أنصت للأستاذ سعيد وهو يتابع بوحه المثير:


ـ لقد انتهى عصر المثل والمبادئ والقيم العظيمة ، وبدأ عصر مختلف ، عصر يحكمه قائد واحد اسمه الدولار..


كلنا نلهث وراءه ونصفق له بإعجاب ، إنه الوثنية الجديدة التي استعبدتنا وألغت عواطفنا وجردتنا من القيم..


أنا لو كنت الآن مكانك لما هزتني حادثة هذه الطفلة!.. عفوا.. أنا لست متبلد الحس ، أرجو ألا تفهمني خطأ..


لكن ، ما أردت قوله أن أطفالنا اليوم يدمرون بألف طريقة ، وهذه الطفلة ليست أسوأهم حظا..


ماذا تقول مثلا في أطفال يموتون جوعا في الصومال أو العراق؟..


ماذا تقول في أطفال تزهق أرواحهم في الأرحام بعمليات الإجهاض الظالمة التي يجريها أطباء أقسموا اليمين الطبي المغلظ؟..


ماذا تقول في جيل كامل تدمره الأفلام والمسلسلات الهابطة ، ويستهلك فكره وإبداعه الفن الرخيص؟..


ماذا تقول في آباء وأمهات يتركون أطفالهم للخادمة الغربية من هنا وهناك ، من أدل أن يستمتعوا بأوقاتهم في حفلات اللهو والثرثرة والمتعة الزائفة؟..


أطفالنا اليوم يا دكتور يربيهم جهلة سريلانكا والفلبين..


ثم أرسل تنهيدة ساخرة وقال:


ـ ماذا تقول في أم تحرم طفلها من حليب ثدييها الطبيعي خوفا على نهديها من الذبول؟.. إنهن يبعن الطفولة من أجل لحظة إغراء.. من أجل كلمة إطراء.. هذا هو البغاء الجديد الذي نمارسه اليوم بعد أن أصبح جمال الجسد عندنا قبل سلامة الروح..


وأنت تعرف أكثر مني يا دكتور عن أهمية حليب الأم لأرواح الأطفال وأجسادهم..






ومرت هنيهة صمت ، غاب الأستاذ سعيد خلالها في شرود عميق ، ولم يلبث أن قال:


ـ لقد ضاق بنا هذا العالم على رحابته!.. ضاق بنا ولم يعد يتسع لزفراتنا الأليمة..


وأردف بنبرة ألم:


ـ أحيانا أتمنى أن أصرخ ، أن أنزل إلى الشارع وأهتف كالمجانين ، لألفت العالم إلى تناقضاتنا الصارخة الغبية..


ثم التفت إليَّ وقال كالمستدرك:


ـ أنت يا عزيزي حزين من أجل طفلة تخلى عنها أبواها ، وتبنتها الهيئة الاجتماعية ، حسنا ، لنقل إن هذه الطفلة ستعيش يتيمة وتشق طريق حياتها متأقلمة مع هذه الحقيقة ، لكن..


ماذا عن أطفال ينضجون وسط جحيم الأسرة ، عندما تفقد الأسرة إلى روح الحب والتفاهم التي تبعث فيها الحياة؟.. ينامون على صراخ آبائهم وأمهاتهم ، ويستيقظون على صوتهم الهادر بالشتائم واللعنات..


ماذا عن أطفال يربيهم آباء وأمهات لا يعرفون معنى التربية السليمة ولا طرائقها؟ لا يعرفون من التربية إلا القمح المرهق أو الدلال المفسد..يتبوءون مقاعد الأبوة والأمومة وهم لا يعرفون عن الزواج سوى أنه إطار المتعة الحلال ، ووسيلة للتناسل والإنجاب..


ووسائل إعلامنا غافلة عن هذه الأمراض المدمرة.. لا تكاد تجد فيها برنامجا أو حتى توجها لتثقيف الآباء ، أو تربية الأبناء..


وأطلق الأستاذ سعيد آهة عميقة وشت بالكرب ، وقال كمن يخاطب نفسه:


ـ لكم ترهقني الحقائق!.. تجثم على صدري كالكابوس ، تنشب أظافرها في نفسي ، وكأني أنا الجاني الوحيد..


أي عالم هذا الذي نعيش فيه؟!..






ثم صمت الأستاذ سعيد ، وقد اعترته كآبة واضحة.. تبادلت أنا وهاني نظرة حائرة ، ثم عدنا بأعيننا إليه ، تبوح نظراتنا بلهفتنا لسماع بقية الحديث.. تستحثه أن يتابع سرد خلاصة تجاربه العميقة ، لكن الأستاذ سعيد أوغل في الصمت ، واغتسلت نظراته الشاردة بأنداء من الدمع..






تساءلت في سري عن المعنى الذي يختفي وراء هذا الصمت الحزين.. لكن الأستاذ سعيد خرج عن صمته فجأة ليروي لنا قصة مؤلمة من القصص التي عاصرها أثناء حياته الصحفية الحافلة..


قال الأستاذ سعيد وهو يعيد إشعال النار في غليونه الأنيق:


منذ سنوات ، أبلغني محرر صفحة الحوادث بأن طفلة صغيرة قد وجدت مغتصبة ومقتولة في بناء مهجور..


صعقني يومها النبأ..


من هذا الوحش الذي يجرؤ على قتل طفلة؟!!.. قلت له: "أعطني العنوان.. سأغطي هذا الحادث بنفسي"..


أردت أن أعرف ملابسات هذه الجريمة الغريبة!.. وصلت إلى مكان الحادث ، وعرَّفت المحقق بنفسي ، وسألته أن يريني الجثة..


رفع الضابط الغطاء عن جثة الطفلة ، فصدمني منظر فظيع لا أنساه!.. هل رأيت الورد عندما يداس؟..


كانت طفلة وديعة.. جميلة كالزهر.. بريئة الطيف.. رقيقة كالنسمة.. طاهرة كالندى.. على شفتيها أشلاء ابتسامة..


تجمدت نظراتي الثائرة على الجسد الغض الذي سحقه المجرم تحت جسده القذر ، وأججت ثورتي تلك الدماء الطاهرة التي كانت تغرق الطفلة ، وشعرت بالغثيان وأنا أرى أبشع صورة للانحطاط البشري..






كان الغضب يغلي في عروقي كالبركان.. نظرت إلى المحقق فلم أجده أحسن مني حالا ، قال لي وكأنه يجيب عن سؤال نطقت به ملامحي الشاحبة: لقد تم اغتصابها بوحشية ، والتقديرات الأولى تشير إلى أنها ماتت بسبب النزيف المهبلي الحاد الذي خلفه الاغتصاب الغادر..


سألته : والجاني؟ هل عرفتم الجاني؟!..


أجاب وهو يهز رأسه في أسف: مازال مجهولا ، لكننا نأمل أن يتم اكتشافه عما قريب حتى ينال العقاب المناسب..


قلت له : تقصد الإعدام!..


أجاب: هذا شيء تقرره المحكمة..


قلت له وأنا في ذروة الغضب: إذا لم تعدموه أنتم ، فسأقتله بنفسي مع سبق الإصرار والترصد ، كن شاهدا على هذا الكلام..


ابتسم المحقق يومها ، وأشفق عليًّ من ثورة الغضب والحزن ، وظن أن كلامي عن انفعال طارئ ولًّده منطر الطفلة القتيلة ، لكني أؤكد لكما أني لم أكن جادا في حياتي مثلما كنت جادا في تلك اللحظة..


ثم دار الأستاذ بكرسيه ربع دورة ، وقال:


ـ بعد أيام اكتشفوا الجاني ، كان واحدا من شباب الحي ، شاب عاطل عن العمل ، يقضي وقته متسكعا في الطرقات ، يتردد على دور السينما الهابطة ليأخذ جرعت عالية من الإثارة وحمى الجنس ، ثم يخرج منها كالكلب المسعور ليلاحق هذه ويعتدي على تلك..


ذات يوم كان هذا الشاب يتجول في أزقة الحي كعادته ، فداهمه المطر فجأة ، فلجأ إلى عمارة قريبة قيد الإنشاء ليحتمي من الأمطار الغزيرة التي انهمرت بشدة..


راح يتسلى بتدخين سيكارة حشيش ، فلعب المخدر برأسه ، فانفصل عن عالم الوعي ، وغاص في الوهم والزيف ، فماعت في خياله الأفكار والمدركات ، واختلطت ، وتحولت إلى هلام , وتربع على عرش النشوة الكاذبة ، فتراءى له الكون وهو يركع عند قدميه..


ورأى هذا المأفو الطفلة البريئة وهي تركض تحت المطر باحثة عن ملجأ ، وقد التصقت ثيابها المبللة بجسدها الغض ، فبدت له غانية حسناء كاللواتي أدمن على مشاهدتهن في الأفلام الرخيصة المسمومة ، فبدد الدخان الأزرق إرادته ، وحرك غرائزه الكامنة ، فعربدت في أعماقه رغبة بهيمية مجنونة ، وسولت له نفسه السوء ، فدعا الطفلة لتلوذ بالمكان الذي يحتمي به من المطر ، فاستجابت الطفلة المسكينة لدعوته ، دون أن تفهم ما يراد بها..


كان وعيها ما زال غضا لم ينضج بعد ، كانت تنظر إلى العالم ببراءة ، خيالها الصغير ما زالت أجنحته ضعيفة لا تقوى على الطيران بعيدا في فهم نوايا الناس ونزعاتهم ، خيالها الطاهر لم يتخط بعد أسوار الخير ، وحدود الفرح ، ليحلق فوق مساحات الشر التي تتسع في النفوس المريضة عندما تفقد إنسانيتها وأصالتها..


وانقض الوغد عليها كالوحش ، وافترسها ببهيمية منقطعة النظير..


كانت الفتاة تصرخ وتستغيث ، وهي ترى الإنسان الوديع الذي يشبه أباها وأخاها يتحول إلى ذئب مفترس ، وضاعت صرخاتها بين هدير الرعد وطرقا المطر ، وبدأت أفراحها تنزف رويدا... رويدا ، حتى ذوت منها الروح ، وخبت ، وفارقت الحياة..


وعاد الأستاذ سعيد إلى صمته يحملق في المجهول ، وترك العنان لدموعه الصامتة لتغسل نظراته الزائعة الكئيبة..


كان في نظراته حزن وثورة ، وغضب متوقد كالنار ، واجتاحتنا كآبة فظيعة ونحن نصغي لأبشع قصة يمكن أن تدنس الأسماع..


سألت الأستاذ سعيد وأنا في لهفة لمعرفة نهاية هذا المجرم:


ـ هل أعدموه؟


أجاب الأستاذ سعيد وهو ذاهل:


ـ نعم ، كانت جريمة بشعة هزت الرأي العام ، وكانت الظروف المحيطة بالقضية تحكم حبل المشنقة حول رقبته ، فأعدم في ميدان عام ليكون عبرة لغيره من الشاذين والمنحرفين..






ثم ارتسمت على شفتي الأستاذ سعيد ابتسامة ساخرة ، قال وهو يتذكر:


ـ حرصت على حضور كل جلسات المحكمة التي مثل أمامها ذلك المجرم ، كنت أحاول دراسة هذه الشخصية المنحرفة ، ورصد المدى الذي وصلت إليه الجريمة في بلادنا ، وكان مما أثار غيظي في هذه المحاكمة ذلك المحامي الذي وقف ليدافع عن المتهم ، ويطالب المحكمة أن ترأف بحاله ، وتقدر دور الفراغ والبطالة في الجريمة ، واتكأ على سيجارة الحشيش ليخفف الحكم على المتهم ، مدعيا أنه كان مدفوعا إلى جريمته تحت تأثيؤ المخدر الذي لعب بعقله وشل عنده القدرة على التمييز..


وعندما انتهت المحاكمة وصدر الحكم بالإعدام على المجرم ، سألت ذلك المحامي : "كيف سمح لك ضميرك بأن تدافع عن هذا الوغد؟" استغرب المحامي سؤالي وسألني عن اسمي وصفتي ، فعرفته بنفسي..


فضحك ساخرا وقال : "أنت؟" قلت له :"نعم ، قل يبدو اسمي مضحكا إلى هذا الحد؟" قال:"لا ، أبدا ، فقط فاجأني سؤالك!." نظرت إليه مشدوها ، وقد أثارني تصرفه ، فسارع يقول:"في الماضي يا أستاذ كنت أقرأ مقالاتك بشغف ، وأعجب بصراحتك وحماسك ، لكني لم أعد ألمس بلك الروح في مقالاتك الأخيرة! لم تعد تكتب يا عزيزي ما تريد"..


ثم أردف وهو يرمقني بخبث:


ـ "بين المحامي والصحفي يا صديقي شبه واضح ، كلاهما يضطران أحيانا للدفاع عن الباطل من أجل لقمة العيش".


هز الأستاذ سعيد رأسه في مرارة ثم امتص بعض الدخان من غليونه ، ونفثه كمن يزفر من شدة الألم ، وقال:


ـ "كان المحامي ذكيا ، صفعني بكلماته ، ومضى ، وتركني فريسة للذهول!.. منذ ذلك التاريخ كسرت أقلامي وألقيتها في بحر اليأس والهزيمة ، امتنعت عن كتابة مقالي اليومي ، وحولت صحيفتي إلي صحيفة حوادث وقصص وتسليات ، صرت أنقل اخبار الفنانين وأسعى وراء النجوم ، خصصت صفحة للتعارف ، وأخرى للبحث عن النصف الآخر ، وثالثة للأبراج ، رابعة للأزياء وخامسة لآخر الصرعات.. وآلمني أن الناس أقبلوا على جريدتي بعد أن كانوا زاهدين فيها ، وارتفعت مبيعاتي من خمسة آلاف إلى خمسين ألفا..."






كان كلام الأستاذ سعيد صريحا صادقا ، وكان يقطر مرارة وألما ، وكأنه حديث إنسان ينعى نفسه ، ويعلن هزيمته بشجاعة نادرة..


وتساءل هاني كالمازح:


ـ أيؤلمك يا سيدي أن يقبل الناس على جريدتك؟


ابتسم الأستاذ سعيد في مرارة وقال:


ـ ما آلمني هو الحقيقة المرة التي تقف خلف هذا الإقبال ، فقد أكدت لي هذه التجربة أننا أمة هاربة ، ترهبها الحقائق ، وترهقها الصراحة ، نحن مجتمع لا يريد أن يواجه نفسه ، يخشى أن يرى وجهه في المرآة حتى لا تفجعه التشوهات الدميمة التي تتسع مساحتها فينا يوما بعد يوم ، نحن مجتمع يريد أن يبقى مخدرا نائما مغمض العيون ، مجتمع يخشى أن يسترد وعيه.. يخشى أن يصارحه المعالجون بأنه مصاب بالسرطان ، أنه بحاجة إلى جراحة عاجلة لاستئصال الأورام الخبيثة من جسده المريض!..


ثم أردف الأستاذ سعيد بعد صمت قصير ، وهو يلقي نظراته نحوي :


ـ اطمئن يا دكتور ، صحيح أني صحفي فقد حماسه ، لكني ما زلت إنسانا ، اطمئن سأتعاطف مع مشاعرك النبيلة , وسأنشر لك خبر الطفلة اللقيطة عدا في الصفحة الأولى..


ثم أرسل الأستاذ سعيد تنهيدة طويلة ، وأغمض عينيه إغماضة من ألم به ألم حاد اخترق جسمه ، ولم يلبث أن قال:


ـ أرجوكما أن تتركاني لوحدي الآن ، فقد أثارت زيارتكما في نفسي شجنا كنت أظن أني قد برأت منه!..


كان طلب الأستاذ سعيد مفاجئا وغريبا ، أوحى لي بعمق الغربة التي يحياها..


شكرناه ، وغادرناه في هدوء ، تطاردنا تلك الصورة المخيفة التي رسمها لنا لهذا العصر الرديء..


قال هاني وهو يتأبط ذراعي:


ـ هذا الإنسان يخيفني..يرسم أمامي صورة قاتمة للمستقبل!..


ـ لكن كلامه لا يخلو من الحقيقة!..


ـ عندما يزور هذا الإنسان والدي ، أتجنب الجلوس مع ، أهرب من البيت كله حتى لا أسمع كلامه ، لاأدري كيف سمعته اليوم حتى النهاية..


قلت وأنا أستذكر كلمات الأستاذ سعيد:


ـ ألم يقل لك الأستاذ سعيد؟.. أنت من مجتمع هارب ، لا يريد أن يسمع ، لا يريد أن يعرف ، يريد أن يظل نائما مخدرا ممعنا في الهروب..


قال هاني كالهازئ:


ـ وأنت؟ من أي مجتمع؟..


ـ أنا أريد أن أعرف..


ـ ستتألم..


ـ الألم من علامات الحياة..


ـ ستتعذب..


ـ العذاب يزيدنا إحساسا بالواقع ، وتصميما على التغيير..


ـ يبدو أنك قد أصيب بالعدوى!..


ـ ممن؟


ـ من سعيد الناشف..


ضحكت وقلت:


ـ أنت المسؤول ، أنت الذي عرفتني به..


ـ لم أعرف أنك تستعذب التشاؤم مثله..


ـ تشخيص أمراض المجتمع ، والبحث عن أسباب السقوط ليس تشاؤما ، إنه الطريق إلى الخلاص..


هتف هاني في توسل وإنكار:


ـ رحماكم أيها المصلحون ، هل تريدون مني أن أشخص أمراض المجتمع ، أم أشخص أمراض الناس؟..


ثم أردف في ضراعة ودعابة:


ـ أرجوك.. أرجوك يا صديقي اللدود ، دعنا من هذا الحديث..


وكالعادة ، استطاع هاني أن يزيل بدعابته الجو الكئيب الذي وضعنا فيه الأستاذ سعيد..


ومضينا نثرثر ونمزح ، ونمعن في الهروب...

2 comments:

  1. مع احترامي لكل الفصول الا ان هذا الفصل كان حقيقة دامغة و دامعة

    متابعة

    ReplyDelete
  2. شكرا لمتابعتك و أتمنى يكون في نقاش بعد الفصول :)

    ReplyDelete